*
*
أعاجيب السرد في " شمس القراميد"
د. محمود طرشونة
هل تكون رواية محمد علي اليوسفي شمس القراميد امتدادا لروايته الأولى توقيت البنكا. وليس معنى السؤال الإيعاز بأن الكاتب يواصل في الثانية ما بدأه في الأولى، فالامتداد المقصود هنا ليس في الزمان ولا في المكان بل في المادة الروائية المستعملة في بناء النّصيّن معا. وقد أضاف إليهما روايتين أخريين، " مملكة الأخيضر " و" بيروت نهر الخيانات ". فقد تغيّر اسم الشخصية المحورية لامحالة وتحوّل من طارق إلى جابر، وتغيّرت بعض الشخصيات الأسطوريّة فظهرت أسماء شمس القراميد ومريم وامرأة المستنفعات وقمر البركة والعَريفة والأقزام المغاربة لكن بقيت أسماء العينوس والبنكا والجدّة، وبقيت شخصية المُعمّر الأجنبي لكن غُيِّرَ اسمه فتحوّل من جورج إلى بوسكو، وبقي التلاعب بالماضي والحاضر والمستقبل وبتعايش الحلم والواقع والمتخيّل والمعيش، وبالرموز والألغاز والمجاز. وليس من باب إرسال القول على عواهنه ختم التمهيد الأول بقوله " طفل يلعب "، فهو فعلا طفل كبير حافظ على دهشته ولعبه لكنّه لعب بالكلمات. لذلك نعت الروايةَ مقدِّمُها فؤاد التكرلي بأنها " رحلة الحياة الشاقة المعذبة المليئة بالآلام والأحلام المجهضة " في عالم العجائب والرموز والعواطف المبهمة والتصرّفات الغريبة وبأنها " رواية متوحشة، بلا معنى، تحتوي على كلّ المعاني، وهي ربما مِثْلُ الحياة، مثل الكون، مثلنا نحن " ( ص 10 ).
هي رحلة لا محالة لكن لا يتبّيّن بوضوح إن كانت رحلة البحث عن الذات في أعماق الذات، أم البحث عن ترسّبات الماضي والحاضر وانعكاساته على مستقبل الدّهر، أم رحلة البحث عن شيء مقدَّر سيكون حتما، أم عن قَدَر "أَختارُه قبل أن يختارني " ( ص 128 ) كما جاء على لسان أحدهم.
ولعلّه لذلك رأى الكاتب أن يمهّد لروايته بتمهيدين اثنين، وردت في الأول كلماتٌ مفاتيح، وتساءل في الثاني قائلا:" إذا من أين أبدأ؟ " فقد ركّب الكاتب تمهيدا من مجموع مصطلحات الرواية في أسلوب فنّي ما ضرّ لو ألغيناه مؤقتا وعمدنا إلى تفكيكه وتصنيف كلماته لفهم ميثاقه السردي، ويحسن أن نرويه كما جاء حتى نبرز جناية التفكيك على التّركيب، وفضل التصنيف ودوره في فهم مغالق الحروف.
1- مفاتيح الكتابة.
ورد في التمهيد الأول " في البدء " كلّ ما يتعلّق بالرواية ومصطلحاتها، والأطراف الفاعلة فيها، والموادّ التي استعملتها، ومصادر تلك المواد والأطر التي تسيّجها. ورد مصطلح " حكاية " فظننّا الابن سيواصل عمل أبيه " الفداوي. " فجاءت كلمة " كتابة " فبدّدت الوهم وبيّنت لنا أن الابن لم يكن وريثا لحرفة الأب، ولم يستعمل الكاتب مصطلح " رواية " حتى على غلاف الكتاب مفضّلا مصطلح "كتابة " وفيه من التحديث نصيب، وذكر في هذا التمهيد طرفا آخر هامّا سمّاه " الراوي " ونسب إليه امتهان الصّور، وميّزه عن "المؤلّف " الذي نسب إليه التأطير ونعته بالكسل قائلا:" يؤطّرها مؤلف كسول". وبذلك ميز على طريقة الإنشائييّن بين الراوي والمؤلف كما ميّز بين الرواية والكتابة وأضاف طرفا ثالثا هو المتلقّي وقد ربطه بالرسالة الموجّهة إليه، ثم ذكر فحوى هذه الرسالة أي المواد التي بنى بها نصّه مركّزا على ثلاثة عناصر هي الجذور والأحاسيس والحركة: الجذور الممتدة في باطن التربة، والأحاسيس البكر، والحركة المتمثلة في الأحداث الحلزونية الشكل، البعيدة عن خطيّة السرد. ولهذه المادة مصادرها، ذكرها الكاتب أيضا في هذا التمهيد الأول هي الذاكرة والخيال: الذاكرة المتوغّلة في ماض سحيق، والخيال المربك. أمّا الوسائل التي استعملها لبلوغ هذه الغاية فهي ليست غير الكلمات بل هي موجة كلام، يخترقها الصوت والصّمت،والعين وسيلة إدراك الصّور التي سيقع تحويلها عبر الكلمات. ولا يذهبنّ في الظنّ أنّ العين هي عين النّظر وحده، بل هي " بصر وبصيرة ، ينبوع نار ونور" كما يقول. وبما أنه لكل حكاية إطار زماني ومكاني فإن هذا التعميم لم يخل من ذكره فوردت فيه كلمات الزمن والأزمنة، والفضاء والمكان النائي، والماضي السحيق والمستقبل القريب. وبذلك اكتملت عناصر القصّ ولم يبق غير الشخصيات وقد خصها الكاتب بالتمهيد الثاني بعنوان " إِذًا من أين أبدأ؟
2- وجهة الرحلة.
فالرواية تقوم على وصف رحلة خياليّة في أعماق الذاكرة وفي المكان. ولم يتضمن الميثاق السردي الذي أثبته الكاتب في التّمهيد غاية هذه الرحلة ولم يحدّدها جابر الطرودي لا قبل بدايتها ولا أثناءها، لكنّنا يمكن أن نعتمد على شذرات متناثرة في المتن ومتباعدة للعثور على تلك الغاية المتجدّدة والمتغيّرة طيلة الرواية. ويقيننا أنها غير واضحة حتى في ذهن جابر، وربما جازفنا فقلنا: ولا في ذهن الكاتب قبل الكتابة بل وردت أثناءها . وما يدفعنا إلى هذا الاعتقاد أنّنا لا نجد غاية واحدة بل جملة غايات قد تتحول أحيانا من النّقيض إلى النقيض، ولعلّنا نفاجئ الكاتب نفسه إذا قلنا له إنه يوجد ما لا يقلّ عن ستّة أهداف لهذه الرحلة الممتدّة في الزمان والمكان وفي الذاكرة. وهي لم ترد بالطبع بمثل هذا الترتيب والوضوح لكن تصنيفها ضروريّ بقطع النظر عن مكانها في النصّ. فالأهداف متحولة من البحث عن الذات وما في الذات، إلى البحث عن التغيير وتوفير الوسائل الماديّة له، إلى البحث عن المجهول، ثم إلى المحتوم، ثم إلى التطلع إلى المستقبل وأخيرا إلى قَدَرٍ ينحته جابر بنفسه. وقد اتّخذ العينوس دليلا يرشده ويفسّر له ما يراه في رحلته من صور ويجيب عن أسئلته، لكنه لم يسأله عن هدف الرحلة لأنّه كان يظنّ أن الهدف واضح بالنّسبة إليه وهو البحث عن الذات كما يظهر في قوله: " ولم يسأله عن هدف الرحلة أو " العندالة". فقد تكون بحثا عن شيء فينا، كما عوّدني" ( ص 194 ). ومعرفة النفس ليست بالأمر الهيّن، فهي تقتضي سبرا عميقا ونبشا موجعا في طيّات الذاكرة. ومع ذلك اعتبر العينوس هذا البحث نوعا من السطحية وتعظيم الذات و" عاب عليّ مرارا اكتفائي بسطح الأشياء والانتفاج " ( ص 194 ).
أمّا " العندالة " فرغم غرابة اسمها فإن جابر لم يسأل عنها بادئ الأمر ثم لم ير بدّا من الاستفسار عن مكانها ووظيفتها وغاية البحث عنها، وإنّ تعريفها يوضح الغاية الثانية من الرحلة لأنّ هذه النبتة العطرة اللامعة المورقة " كان القدامى يعتقدون أنها تدخل في تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب.
فيسأل جابر من جديد:
- واليوم؟ ماذا تسمّي كلّ هذا العذاب من أجلها؟ يجيب العينوسى:
- إنّها رغبة خالدة في التوصّل إلى تحويل ما !
حتى إذا لم يكلّل بالنجاح" ( ص 194 ).
فالغاية الأساسية من ذلك البحث إذن هي التحويل، تغيير ما بالنفس، وتغيير العالم وتغيير الواقع البائس.
3- رحلة البحث عن المعرفة.
ويمثّل البحث عن شمس القراميد غاية ثالثة من رحلة جابر الشاقة. وهي كائن مجهول " ليس من السّهل رؤيتها بعيدا عن تجلّياتها " كما تقول العَرِيفة لجابر في دار كوفا. ( ص 142 ). فهو إذن البحث عن المجهول، غايته معرفة الخفيّ من الكائنات وتجلية هويّتها. وغاية المعرفة كانت دوما ملازمة للإنسان في حلّه وترحاله، وللغموض سحره لامحالة لكنّ المعرفة تُطْلَبُ لذاتها أو لما يمكن أن تكشفه من جمال مخفيّ وحقائق مفيدة. وليست شمس القراميد إلاّ رمزا للجمال الذي لابدّ من اكتشافه في تجلياته البشرية والطبيعية، وحقيقة يتحتّم تعريتها لإثراء المعرفة. وهذا يوحي به ظاهر النصّ فضلا عن باطنه وما يمكن نعته بمعنى المعنى. فالبحث عن شمس القراميد إذن هو بحث عن المعرفة. لكن بلوغ المعرفة تعترضه صعاب لابدّ من تذليلها. والرحلة التي قام بها جابر صحبة العينوس للوصول إلى المغارة ثم إلى النبع تذكّر برحلة مدين في مولد النسيان لمحمود المسعدي صحبة رنجهاد. ففي كلتا الرحلتين يتغيّر مفهوم الزمان ويتبلور مفهوم الحق وتتبين صفات الموتى. وفي كلتا الرحلتين بحث عن نبتة و نبع وخلاص. جاء في مولد النسيان قول السارد في وصف رحلة مدين داخل الغاب:" وخُيِّلَ لمدين أنّ له جناحا وأنّه يطير في الزمان، أو أنّه ساكن مستقّر والزمان من تحته يمرّ." ( ص 820 ) وجاء في شمس القراميد قول جابر:" تحوّل الزمن إلى طبقات في طيّات الريح " ( ص 193 ). وجاء في مولد النسيان قول رنجهاد لمدين:" واعلم أنّ الحقّ يأبى أن يقع للنفس من سبيل المعاني ومنطق البشر. وأنّه ليس من حقّ إلاّ ما وقع فأعجز اللفظَ وكذّب العقل وخلا من معنى " ( ص 74 ) وجاء في شمس القراميد قول شيخ من ظلام السنين خرج من باب المغارة:" لماذا تنقطع عن المكان وكأنك في أوّل الرحلة؟ أتبحث عن الحقّ أم عن المعشوق؟ لا يتبلور العشق إلاّ في غياب المعشوق. لا قوّة للحضور يذكرها الغياب" ( ص 101 ). ونبتة العندالة تذكّر بنبات سلهوى، نبات النسيان والسلوى، والنبع الذي يريد جابر بلوغه يذكّر بعين سلهوى، وعالم الموتى في شمس القراميد شبيه به قول رنجهاد في مولد النسيان:" هذا عالم الموتى، الذين ماتوا ولم يدركوا الفناء جاؤوا ليبلغوا العين. [... ] ونظر مدين فإذا هياكل من عظام رميم تقوم فتمشي ثم تكتسي لحما وألوانا وصحّة وجمالا " ( ص 92 – 93 ) وجاء في شمس القراميد قول جابر واصفا مشاهداته في رحلته:" على امتداد الطريق بقايا هياكل عظميّة، هياكل حيوانات وبشر، أطفال ونساء..." ( ص 193 ) ويلي هذا الوصفَ حوار تفسيري بينه وبين دليله العينوس:
- كلّهم هلكوا من أجل بلوغ النّبع الذي كنّا فيه.
- من أجل قطرة ماء..
- لكنّنا بدأنا من موتهم، فوصَلْنا.
- متى نصل إلى المغارة؟
- عندما نغادر ما نراه ميتا فينا إلى ما نحسبه حيّا، في تجاوز الموت والحياة. ( ص 194 )
ونحن نرى أنّ هذا التشابه طبيعي جدّا. فموضوع الرحلة الخيالية هو الذي اقتضى تلك المشاهد بالذّات، وبعد، فالأمر في كلا الكتابين حلم، وحلم البشر كان دوما بكسر شوكة الزمان، وقهر الموت، واكتساب صفات خارقة ليست للعاديّ من البشر. ولا يمكن الحديث عن وقوع الحافر على الحافر بل هي مدرسة أدبيّة واحدة تبحث عن التجديد والتجاوز وتوّظف اللغة والصور لبلوغ المرام، والمرامُ بعيد.
إنّ لرحلة جابر غايات عديدة أهمّها البحث عن الذات، والبحث عن التّحويل، والبحث عن المعرفة. ويمكن أن نضيف إليها البحث عن المستقبل، والبحث عن المقدَّر، والبحث عن الكيان. وقد جاء الحديث عن المستقبل بصريح العبارة في كلام جابر يوم جاءه باحث أمريكي في التقاليد الشعبية المسترهامّت، يسأله رواية السير الشعبيّة فيعتذر بأنّه هرب منها. فيسأله الباحث:
- كيف تهرب منها وهي تعيش فيك؟ يجيب جابر:
- لم تعد تجدي اليوم، ثم أضاف:" ليست السّير الشعبيّة هي ما ينقصني، أبحث عن مستقبل واضح ".
فيلاحظ له الباحث الأمريكي:" لكن بحثك عن المستقبل لا يُبْقي الاعتزاز بما تملك" ( ص 149 ) وبهذا التوضيح نفهم لماذا شعر جابر بالضياع يوم فَقَدَ دليلَه وابتعد عن مركز الدائرة فصار يمشي نحو الماضي كما لوحظ له فصاح:
- ومن أنت حتى تحدّثني؟ [ أجاب الهاتف ]:
- أنا المكان الذي تسعى إليه.
فوضح جابر من جديد غايته من الرحلة قائلا:
لكنّي أسعى إلى المستقبل.
ثم وُضِّح له أنه اختار دخول المستقبل من باب الماضي وأنّ في ذلك مجازفة كبيرة عبّر عنها جابر بمثل هذه الحيرة:"ربما بسبب امتلائي بالماضي يُخِيفُني هذا المستقبل المجهول" ( ص 233). وبذلك يزول الإشكال ويتبيّن قول الباحث الأمريكي إن البحث عن المستقبل لا ينفي الاعتزاز بالماضي. لكن جوابَ جابر عن سؤال سابق مربكٌ حقّا إذ أثبت أنّه " لم يختر شيئا، وأنّ هناك من يناديه " ( ص 129 ). فكأنّه يسير دون إرادة إلى أمر محتوم. وكان تَسَاءَلَ في بداية الرحلة :" كيف يصنع المرء قَدَرا وهو يُصْنع له؟" هل هو قدر آخر ذاك الذي حدّثني عنه العينوس، قدر الركض وراء وهم آخر، وسيرة أخرى عنوانها شمس القراميد" ( ص 67 ) ويوم سأل عن توقيت مجئ العينوس أجابته العَريفة " سوف يأتي في وقت مُقدَّر". ( ص 142 ). هذا الوعي بالمقدّر هو الذي دفعه في نظرنا إلى تحديد غاية سادسة للرحلة مناقضة تماما للغاية السابقة وهي عدم الرّضا بالمقدّر. فلما قال له هاتف" إن الفشل يكمن دائما في مركز الدائرة. هذا قدرك" أجاب:"إني ذاهب إلى قدر أختاره قبل أن يختارني " ( ص 128 ). ولم يهتم بمن أراد أن يؤكّد له أنه قادم " إلى قدر يختارك ونهاية تنتظر من يجعلها كذلك". ومهما كان الأمر فإنّ التمزق بين قبول المقدَّر ورفضه ثابت. وهذا ما جعل غايات الرحلة متجدّدة على الدوام حسب الظروف والأماكن، و في غياب الدليل وحضوره على حدّ سواء. فالغاية تتشكّل بحسب تقدّم السرد وتطوّر الحلم ومواقف الرّفقة وانبعاث الأصوات من داخل النّفسِ والنّفسُ ملول أمّارة بالتحوّل من حال إلى حال، ومقام إلى مقام، ولا تكون الطريق طريقا حتّى تكون بلا نهاية.
4- رحلة الأحلام.
فالرواية رحلة خياليّة حالمة، رحلة في الزمان ورحلة في المكان أيضا.والمكان مكانان: واقعي ومتخيّل، الواقعي في بدايتها ونهايتها، والمتخيّل شَقَّ لنفسه مجالا بين البداية والنّهاية، بين الطفولة والشباب.
جاء الوصف على لسان الراوي بضمير المتكلّم محدّدا المنطلق، محطّة القطار في نقطة من الشمال الغربي " شمال الماء والبوم والصّوّان"، كما يقول، الأرض التي يسمّيها لك آخرون أرض " افريقيّة " ( ص 20 ) وهو يسمّيها " كاف الحجر ". يصوّرها على طريقة الرسامين الارتساميين بواسطة خطوط عامّة وبقع ملوّنة يكاد بعضها يستقلّ عن بعض: أقواس القناطر وجبال وردية وعين باردة وبئر، ومخازن القمح وصفير القطار وأخيرا أضواء المدينة البعيدة. لكن عندما تمرّ الأوصاف عبر وجدان الراوي وتتجاوز حقل رؤيته تدخل الحركةُ المشهدَ فينبض حياة:" عندي نهر وسبع قناطر، تبدأ بِجُرْفٍ أخشاه كثيرا، خاصّة عندما يمتلئ بأمطار الشتاء وبفيضان النّهر" عندي كلمة عجيبة اسمها " سيلوس " أنطق بها فتتقافز الجرذان من أكوام القمح..." ( ص 20 ). والراوي يعلن منذ البداية أنّه سيغادر هذا المكان، فغادره مرّتين: المرة الأولى إلى ذلك الفضاء المتخيّل الذي تغمره كائنات عجيبة ومواضع غريبة مثل المغارة والعين ودار كوخا والخان والبركة والنهر وغيرها، والثانية إلى المدينة في نهاية الرحلة وعلى وجه التحديد إلى العاصمة " تلك المرآة الماصّة التي تبتلع الزّارع والمزروع " ( ص 232 ). وقد جاءته الرغبة في السفر إليها منذ أن ضاق بالمكان وتاه فيه، فضاق به المكان فتحّتم البحث "عن أماكن أخرى محتملة لمغالبة النّسيان " ( ص 222 ) ورغم أن المدينة مبعث خوف فإنها تبقى الملاذ الوحيد لطفل المَزَارِع، جابر الطرودي، ومن قبله طفل آخر في توقيت البنكا يسمّى طارق، ومن قبلهما طفل آخر يسمّى محمد علي اليوسفي. ضاقوا جميعا بالمكان كما ضاق بهم وبإخوتهم وأعمامهم فركبوا القطار ورحلوا. منهم من طاب له المقام فأقام، ومنهم من تجاوزه إلى مَهَاجِرَ أخرى، ضاق بها هي الأخرى، فعاد وأقام من جديد محاكيا الطير البرني العائد إلى وكره. قال الراوي:" لكنّي هربت من هشاشة الكائن المقيم إلى هشاشة الكائن المترحّل". ( ص 82 )
***
قال الباحث الأمريكي للراوي:" ألا يخيّل إليك أحيانا أنّ الحياة مجرّد حلم بينما الحلم هو الحياة؟ " ( ص 229 ).
سؤال بقي بلا جواب، لكن كلّ شيء في الرواية جواب عن هذا السؤال الكبير. فلا يوجد فيها أي حاجز بين الحلم والواقع، ويندر أن يقدّم الحلم على أنّه حلم والواقع على أنّه واقع، بل يقدّمان فقط وعلى المتلقيّ أن يفصل بينهما إن استطاع إلى الفصل سبيلا. وحتى الأساطير لا تقدّم على أنها أساطير لأنّها في مخيّلة النّاس وقائع ثابتة. فالاعتقاد في وجود عين باردة تعيد الشباب لمن يشرب منها وتكسبه الخلود أمر مشترك بين جميع الشخصيات، وما لقيت جدّة طارق حتفها إلاّ لأنّها أخطأت الاتجاه ليلة سَرَتْ بمفردها، كذلك الاعتقاد في مفعول العين الضارّة، هو عند أم الراوي يقين إذْ أثبتت لابنها أن هذه العين موجودة " عند المرأة الشَّعْرَاء والرجل الأمرد، عند صاحب العينين الزرقاوين وعاقد الجبين، عند العجوز والعاقر، عند القزم والأحدب والأعور." وعندما يسألها ابنها:
- وماذا تفعل العين يا أمّي؟ تجيب:
- تقطع عودك إذا كنت عنقود عنب، وتسقطك من طيرانك إذا كنت محلّقا. ( ص 41 ) ثم تحذّره من الالتقاء بمريم لأنّ لأمّها مثل هذه العين الضارّة.
إلاّ أنّ التمازج بين الواقع والمتخيّل يبلغ أحيانا مستوى سرياليّا تختلط فيه الصّور فتتحول إلى مشاهد يقف العقل إزاءها عاجزا عن الفهم، ويفقد منطق الفصل والوصل منطقه، وتغيب عنها المقاصد، ويعسر التّفكيك والتّحليل، فيكتفي القارئ بالتّسجيل والتعجّب. ونعرض نماذج منها لعّلها تجد تفسيرا لتمازجها إنّ صحّ أنّ لراويها غاية من تقديمها على تلك الصورة، شأنه في ذلك شأن بعض الرسّامين المحدثين، ينجزون اللوحة من تمازج الأشكال والألوان ولا يحمّلونها أيّ معنى، وعندما تسألهم عن المعنى يجيبون أنّ غايتهم جمالية صرف وأن مِنْ حقّ المُشاهد تأويلها كما يشاء، أي من حقّه أن يسقط عليها استيهاماته الشخصية، وهو لا يرفض أيّا منها لأنّها في جميع الحالات حقّ، إن وجدت في اللوحة فهي حقّ، وإن وجدت في ضمير المُشاهد فهي حقّ، وإن لم توجد البتّة فهي أيضا حقّ، وهذه نماذج منها نعرضها كما جاءت دون تأويل ولا تفسير:
قال:" تأكل برتقالة فتقول إنك صرت برتقالة مع أنّك امتصصت رطوبتها. أنت كالماء، وسوف تقتنع بكلّ ما يسكنك كي تسكن الجاذبيّة. سوف تقتنع حتى بلذّة الموت، بانعكاسك في شعاع، قالت، وعيشك في قطرة مالحة، لأنّك سوف تغادر الحياة بملوحة " دمعة عاشقة ". ( ص 49 ) - أخرج أخي بواسطة خنصره الأيسر قطعة كبيرة من أنفه وأخفاها في يده اليمنى. عَرَقَت يده فصارت القطعة لزجة..." ( ص 51 ) " عندما بلغتُ حافة القوس، وراء أخي، تزحلقت متقهقرا قليلا و... متُّ. لكنّ يديَّ تشبّثتا بالحافة. ووجدت حفرة فأدخلت فيها يديّ " ( ص 52 ) " انعكست الأضواء على السّكة، رأيتها، العينوسُ على يمينها يقول:" أنا عينها". والدي على يسارها يقول " أنا صوتها ".
رأيتها تراني أراها.
خرجتُ مني ولم أعد أنا.
ليس لي اسم وكلّ اسم ليس أنا. ( ص 53 )
" النهار لا يُرى لأنه ليل، لأنه بومة تحرس الصمت من النداء "
من الأفضل للإنسان ألا يكون فأرا، لا قبل موته ولا بعده"
" أكل الثعلب مائة وستّا وأربعين دودة في ليلة واحدة " ( ص 59 )
" هاج القزم، اقتربت القطط والجرذان وكل ما يتحرك، ولما امتلأت معدته تكتّل كلّ شيء في المصران الغليظ، ريش، لحم، نمل، عشب " ( ص 115 )
5- جامع الأعاجيب.
ومن الشخصيات الغريبة في هذه الرواية نكتفي بالتركيز على شخصيّة العينوس، فهو وحده جامع الأعاجيب لأنّ له على الأقلّ ثلاثة وجوه تختلف باختلاف الرّائي: وجه معتوه ووجه ضحية الجنّ، ووجه البطل:
الأول ظهر على لسان رجال القرية في المقهى يوم طلب من السارد أن يقتفي خطى أبيه ويروي حكاية العينوس و شمس القراميد فيعلق أحدهم بقوله:" إن العينوس رجل معتوه لا يمكن أن يكون بطلا لحكاية" ( ص 60 ). فهذه صورته في الواقع، ويمكن أن نضيف إليها جزئية أخرى وهي أنّه كان يرى بعين واحدة. وقد بدّد ثروته ومجده " ( ص 86 ). وعندما سينزح إلى المدينة في نهاية الرواية يتوقّع أن يبحث فيها عن عين زجاجيّة " وربّما يتحوّل إلى مهرّب أو شحاذ لأنّه لا تنقصه التجربة ولا الحيلة. ( ص 232 ) وبهذا المصير تكتمل شخصيته التاريخيّة، القريبة من الواقع.
الوجه الثاني هو الذي جاء على لسان الأم والجدّة في رواية توقيت البنكا فالأم ترى أنّه " يتحرّك من تحت أيديهم " وأن كل ما يحكيه ليس له علاقة بما نراه." ( ص 43 ) لذلك لمّا سأل طارق جدّته عنه " أنهت الحديث مرتبكة بقولها مرتين:" لا تتحدث عن العينوس " فذهل طارق، لم يكن يتصور أن العينوس مخيف إلى هذا الحدّ. ازداد فضوله لكنّه لم يتوجّه إلى الجدّ بالسؤال لأنه بات يعرف إجابته مسبقا:" لا تملأ رأسك بخرافات جدّتك..." ( ص 76 ). هذه الصورة الثانية المخيفة هي التي ستغري جابر بالبحث عنه ومحاورته واتخاذه دليلا في البحث عن شمس القراميد. وعندما يروي طارق إلى السارد حكاية رحلة البحث عنها فإنّه سيضخّم شخصية العينوس ويجعله بطلا حقيقيّا – لا مضادّا – يفكّر بحكمة ويرشد إلى قويم السّبل ليس بما أوتي من مَلَكَة في استحضار الكائنات الخَفية كما ذهب في ظنّ الجدّة، بل بما أوتي السارد من قدرة على التّخييل ونسج الحكاية وتركيب الشخصية انطلاقا من وقائع بسيطة تضخّم وتهوّل فتتحول إلى مادّة حكائية ثرّة. ومن هنا وجب النظر في آليات تحويل المعطيات الواقعيّة إلى مادّة أدبيّة عبر السّردِ والسردُ عجيب.
6- أنا الحكاية.
فما مصير الابن الذي يرث عن أبيه رواية الحكايات الشعبيّة في المقاهي والسّاحات العموميّة؟ أيواصل عمل والده فينتصب في أحد المقاهي ويستجيب لانتظار رواده فيقصّ عليهم حكاية "سيف بن ذي يزن وعاقصة " أم يتمرّد على كلّ ذلك فيروي سيرته الذاتية؟ إن رواية شمس القراميد تجيب عن هذا السؤال بكلّ وضوح. فبما أنّ العصر غير العصر فلا يعقل أن يكون الابن امتدادا للأب يحكي سير الماضين ولا يتدخّل في أحداثها. لقد صار الابن نفسه حكاية تحتاج إلى راو قدير يفهم أبعادها، بل إلى كاتب يكتبها بقلم العصر ومنظار العصر. يقول جابر بعد أن أكّد اختلافه عن أبيه ورفضه لمهنته:" في المقبرة دخلت مكانا آخر، من باب موارب، لم يعد هناك اثنان، أنا الحكاية، دخلت الحكاية. صارت لزجة، حيّة، تجري أحداثها في كلّ مكان، وفي اللامكان، وأنا العين التي انتظرتْ حتى توحّدتْ بما ترى، أمّا الرواة فقد افترستهم العين، لن أصير راوية بعد أبي، عليّ أن أكتب حكايتي..." ( ص 69 ).
ولمّا أوشكت رحلته الخيالية على نهايتها توفّر لديه من التجارب والخيالات والصور ما جعله يشعر بأنّه صار فعلا حكاية تبحث لها عن راوٍ" أتدفّق فيرويني " كما يقول ( ص 212 ). والواقع أنّه لم يكن في حاجة إلى راو لأنّه هو الحكاية وهو الراوي في الآن نفسه. وهذا ما تجسّم في رواية كامل النصّ بضمير المتكلّم. وهو تحوّل جوهري في فن السّرد، فقد كان أبوه يحكي حكايات غيره بضمير الغائب، فصار الابن يحكي حكايته الشخصية بضمير المتكلّم، ولم يَخْفِ عزمَه على التركيز على سيرته الذاتية مؤكّدا استقلاليّته عن والده قائلا:" ينبغي أن أسوق خطابي إلى سيرتي، بعيدا عن حضن أمّي وحلقات أبي" ( ص 61 ).
فكلّ شيء قد تغيّر، الزمن والظرف والمتّلقيّ، ولم يعد يجدي تكرار ما " قاله الأقدمون والنسج على منوالهم والحال أن مرورنا على الأرض يتم في زمن غير زمانهم" ( ص 15 ). لابدّ من الخروج من زمن الأسلاف حتى يتمكن من مغادرة أرضهم لاحقا. فمنذ البداية اتّضح عزم الراوي على هَجْر المكان الذي نشأ فيه وربط هذا الهجر بهجرة الزمان التي جعلها سابقة وممهدة له. والأهم من ذلك أنّه يقترن بالهجرتين معا تحوّل فن الحَكْي من الآخر إلى الأنا ضميرا ومادّة. قال في التمهيد:" أخرج من زمن الأسلاف أوّلا لأخرج من تربتهم لاحقا. وأروي على لساني كلّ ما جرى بشأني. فإليكم الحكاية من البداية إلى النهاية، حكاية جابر الطرودي وما جرى له من عجائب الإقامة وغرائب الترحال، مع شمس القراميد ابنة الملك الأبيض" ( ص 75 ).
وبذلك أعلن برنامجه الحكائي وميثاقه السردي. ولا يخفى ما في أسلوب هذا الإعلان من رواسب الحكي القديم. فقد تضمّن قولُه هذا تشويقا وترغيبا في السماع عن طريق الإلحاح على ما في حكايته من عجائب وغرائب. ومعلوم أنّ العجيب يُعدّ ركنا أساسيا في القَصَصَ الشعبّي لأنّه يستجيب لأفق انتظار سامع يبحث عن الهروب من واقعه الرتيب إلى عوالم خياليّة أرحب تعجّ بالكائنات الغريبة وتتحقق فيها أحلام لا يمكن لها التحقّق في الواقع المعيش. وقد ورد في هذا الميثاق الحكائي أيضا إعلان عن شكل مغامرات الأبطال عبر ذكر الإقامة والترحال، فثبت أنّ الأمر يتعلق برحلة، رحلة البحث عن شمس القراميد ولكنّها بالخصوص رحلة البحث عن الذّات في طيّات الذاكرة وفي الفضاءات الحقيقيّة والمتخيّلة على حدّ سواء. وما قاله العينوس لجابر في أحد الأيام يؤكّد هذا المنحى:" البطل هو الذي يبني عالما على صورة خالقه. وأنت جئت تحت علامة العين، فاصطدمت بصخرة، لن يجديك تكرار الحكايات" ( ص 24 ). وقد فهم جابر الدرس على أحسن ما يرام وعمل بمقتضى تعاليمه طيلة الرحلة وطيلة رواية سيرته وسيرتها؟
الحكاية إذن قادرة على إنشاء عالمها انطلاقا من الموجود ومن المتخيّل، وهي بذلك تستجيب لتغيّر العصر لكنّها في الآن نفسه تساهم في خلق عصر جديد، يبدأ حلما ثم يُحوّل إلى نصّ، ثم يُغَيِّر النصُّ الراوي والمروي له. وهذا يمكن أن نعتبره من باب الممكن وإن كان المفعول بطيئا ومُرْجَأً إلى حين ، لكنّ الأعجب من ذلك أنّ الحكاية تُتَّخذ درعا يحمي راويها من مفعول العصر. وقد لخص يعقوب اليهودي الذي استشهد به الأب فعل التغيير وعكسَه في هذه الكلمات الوجيزة " من الصعب تغيير العالم في يوم واحد" ولما سأله الطفل " فلماذا تواصل حكاياتك إذن؟ أجابه: لكي لا يغيّرني العالم ! " ( ص 35 ).
تلك إذن وظيفة الحكاية المزدوجة والمتناقضة، تغيير العالم تغييرا بطيئا جدّا يتمّ على امتداد أجيال، والتّصدّي للتّغيير من خلال المحافظة على تراث السّلف كما وَصَلَنا، بأركانه النيّرة وبخرافاته وأوهامه ونواحيه المظلمة والظلامية، وقد استوى في ذلك الأب المسلم ويعقوب اليهوديّ، الأوّل يقدّمها على أنّها " علوم الأوّلين " ويضيف مدافعا عن استحضار الجان والتداوي بالأعشاب " وعلومهم قد لا تنفع أحيانا لكنّها لا تضرّ" ( ص 36 ) والثاني يذكر وظيفة هامّة جدّا لسرد الحكايات في قوله: " سأروي للناس حكايات حتى يفرحوا مثلي" ( ص 35 ).فالحكاية إذن مصدر فرح للراوي والمروي له في الآن نفسه. وما القصد بالفرح هنا إلاّ المتعة الفنيّة النّاتجة عن السّرد. وهي وحدها مبّرر كاف للاستمرار فيه، وعنصر مشترك بين حكايات السلف وحكايات الخلف، إلاّ أنّ الأولى لم تعد تلائم روح العصر وذوقه بسبب تركيزها على أساطير الأوّلين، بينما الثانية تستجيب لتطلّعاته وتحاور ثقافته ولا تخيّب أفق انتظاره.
هل توفّرت كلّ هذه الشروط في رواية شمس القراميد؟
لقد ركّز راويها على سيرته الذاتية لامحالة، واستلهم بعض أركان التراث، وتوخّى أسلوبا حديثا في السّرد يقوم على مرونة اللغة والمزج بين الواقع والخيال، والتّعبير المجازي والتقرير المباشر خاصة في الشروح اللغويّة والنزعة التّعليميّة، كما يقوم على حيويّة الحوار وتداخل الأزمنة والإيحاء بفضاءات عجيبة، وعلى توظيف الأسطورة توظيفا عصريّا. لكن هل يكفي كلّ هذا – وهو من خصائص الروايتين معا توقيت البنكا وشمس القراميد – لإقناع قارئ عاش طويلا على رواسب الرواية الواقعيّة وغير متهيء لاستيعاب ألعاب القصّ المختلفة؟ إن كتابة كهذه تستجيب بالأحرى إلى تطلّع نخبة مثّقفة مجّت الأدب الواقعي في مختلف صوره التقليديّة وصارت تطالب بمنتوج جديد يتجاوزه ويناقشه ويعمد إلى تفكيك الواقع حتى يتمكّن من إعادة تركيبه لإنشاء واقع روائي خاص. لكنّ كتابة كهذه تحكم على عدد كبير من القرّاء بالإقصاء.
*
بيروت ونهر الخيانات (رواية)
صفوان حيدر - السفير
ليس في الرواية بطل واحد مركزي تدور حوله الأحداث، بل أربع شخصيات: الأنا الراوية، و"المناضلة المتقاعدة" راوية عمران، وعزوز المرداسي وشروق التونسية. الأربعة من أصول تونسية، واثنان منهم تجولا في أرجاء العالم العربي وفي أوروبا، يلتقون في بيروت وفي تونس فيما يشبه التقاء أربع مرايا عاكسة متقابلة. وتستهل رواية عمران الرماية فيما يشبه المونولوج الداخلي لامرأة تكسر تمثالها على يد الأنا للمؤلف الراوي وتحاول، بإصرار فاشل أحياناً، أن تكون المرآة التي تدور حولها أحداث الرواية برمتها. نكتشف في الفصل الثاني أن راوية عمران تواجدت سابقاً في بيروت لأسباب سياسية وأنها مرت بتجربة حزبية قاسية وهي لم تترك تنظيمها السياسي بل طُردت منه لأنها اتهمت بقتل رفيق حاول اغتصابها، وكان "مناضلا" أممياً، جاء من بوليفيا ليلتحق بصفوف "الثورة" منذ بداية الحرب الأهلية اللبنانية، ينكشف أيضاً أن لراوية علاقة مشبوهة بالمنطقة الأخرى من بيروت وبالخارج أيضاً. ويعترف الراوي الذي هو المؤلف انه انجذب إلى شخصية راوية عمران الغنية المتناقضة: "كنت وما أزال انجذب إلى المرأة الغامضة التي تسكن كثافتها وتترك لظلالها مهمة الحديث عنها كنت أحاول الاقتراب من راوية الأولى، فتدفع بي إلى الثانية. أعايش وهم الثانية فتهبط بي أو تعلو إلى الثالثة... في بيت راوية مرايا عديدة". تقول راوية مبتسمة: تلك المرايا تعددني. وفي بيتها رأى الكاتب نفسه كثيرين يسعون وراء كثيرات هن راوية الواحدة... "حتى إذا جلست، انفتح ذلك الشق عن نصل فخذها فعددته المرايا".. والواقع أن كل فصل في الكتاب مرآة للفصل الذي يليه ويبدو من ذلك إتقان اليوسفي للعبة المرايا في الحوارات والأحداث وتركيب الشخصيات.. عزوز المرداسي هو المرآة الثالثة. في الفصل الثالث يتحدث عزوز عن نفسه: "هاجرت إلى أوروبا. وتمكنت من امتصاص الصدمة، بل صدمات أن يصير المكان مكانين والزمان زمانين. وحسب المواسم، وسوق العمل، تنقلت بين مهن عديدة، فعملت في البناء والزراعة والكناسة وتمكّنت من الانتساب إلى جامعة السربون لبضعة أشهر فقط. وبعد ذلك غادرت فرنسا إلى ألمانيا، قبل أن أبيع الجرائد في النمسا، واصطاد فرص التسكع والعمل في بلدان أخرى، مقاوماً الركود هنا، بالسفر إلى هناك، حتى بلغ بي الوهم أن ذهبت للبحث عن فرص أفضل في تركيا والعراق وإيران وسوريا.." ويعود المرداسي إلى تونس ويتزوج إلا انه لم يصطحب معه زوجته عندما قرر سفراً آخر، تلاه سفر. يطارد عزوز كابوس مشهد الجمجمة التي يركلها أطفال الشارع في وجهه. ويخاف عزوز من الموت ويسافر من بلد إلى آخر بحثاً عن نجاة من هذا الكابوس المخيف. ويكرر عزوز أن الوجود نسبي، مجرد حلم نسمّمه بالكوابيس. ولذا لم يطلق عزوز زوجته أحلام سلسلة المعارك بينه وبينها. ونكتشف بعد سلسلة طويلة من التداعيات يخبرنا عزوز أنه صديق طفولة وزمالة دراسية للراوي الأنا. وفي الفصل الثالث بعنوان "أنا وعزوز المرداسي"، يعترف الكاتب انه كتب الكثير على لسان عزوز، واستفاد أيما استفادة من حكايات عزوز وأفكاره. ويتميز عزوز بشخصية كاتب وفنان وحكواتي وناقد ومراسل صحفي يجوب العالم. ومع ذلك فهو لا يكتب. بل يترك الكتابة للراوي. ولا يكف عزوز عن الثرثرة عن مغامراته العاطفية في أوروبا، ويسأل عزوز الراوي بعد زيارته له في بيروت عن راوية عمران وكتابها فيدرك الراوي أن راوية تسعى للاقتراب من كل شيء يخص الراوي حتى الاقتراب من صديقه عزوز. يبدو عزوز في الكتاب المرآة الأخرى للراوي، كما تبدو راوية عمران المرآة الأخرى لزوجة عزوز أحلام، كما تبدو راوية عمران في إصدارها لكتاب كتبت فيه سيرة حياتها المرآة الأخرى للراوي نفسه الذي يكتب هذا الكتاب. لعبة المرايا التي يحفل بها هذا الكتاب تجعل من قراءته تعليقاً في فضاء بلا زمن. إذ لا بداية ولا تدرج ولا صعود إلى الحبكة في الكتاب، بل يمكننا أن نستبدل فصلاً بفصل أو نقوم بترتيب الفصول وفق تسلسل مغاير، وتبقى متعة القراءة متأتية من اللغة الجميلة التي يحبك بها اليوسفي نصوصه ناسجاً حوارات مدهشة في دلالاتها الشعرية والرؤيوية. وسواء سرد هذه الهواجس والأفكار عزوز أو راوية عمران أو المؤلف الراوي فإنها تبقى محافظة على قيمتها الجمالية. أي أن هذه المونولوجات والحوارات تمزج الشخصيات ببعضها فيما يشبه الاحتفال بعيد البربارة حيث يستبدل الأبطال أمتعتهم ويحافظون رغم ذلك على إيقاع حفلة متماسكة من الأقاويل الحكائية الجذابة. ويتضح في الفصل الرابع "أنا وراوية" أن راوية تزوجت في تونس من روائي تونسي وأصدرت كتابا يحكي سيرتها. وينهمر علينا في هذا الفصل سيل من رسائل راوية عمران إلى الراوي المقيم في بيروت رسائل تعنونها ب "إلى العزيز الطالع من المرايا" أو "إلى الهارب أبدا" أو "إلى العاشق القديم الذي لا يخون" أو "إلى الذي لا يكف عن الموت" أو "إلى البعيد القريب" أو أخيراً "إلى عزيزي المطمئن دائما" وفي الرسالة الأخيرة نفهم أن راوية عمران آتية إلى بيروت من جديد لتلتقي بالراوي. ويتم اللقاء في منزل الراوي حيث ترتب راوية مع صديقتها شروق التونسية حفلة وثنية صاخبة يأتي إليها عزوز المرداسي أيضا. وفي تلك الحفلة ترتطم المرايا ببعضها وتتكسر التماثيل ويتم استبدال الأقنعة. الرواية المابعد حداثية إنها رواية تاريخ، بل رواية ما بعد حداثية من خلال تحريفها وإعادة صياغتها للآراء أحيانا، ومن خلال تهكمها على العناصر المستعارة من رواة حداثيين أحيانا أخرى. في الرواية تصادم بين الحديث والقديم، الجدي والهازل، المستعار والأصيل، الأخلاقي وغير الأخلاقي، الجمالي وغير الجمالي، السياسي والشعري، وهذا التجاور أو الكولاج بين مفارقات عدة، ينسحب على السرد والحوار، وليست بيروت الا إطاراً للوحات سردية سوريالية تتخللها مشاهد ايروتيكية فاضحة واكزوتيكية ناشزة، ومواقف كاذبة بل "اكذوبانية" حسب تعبير راوية عمران. لوحات بلا توقيع ولا تواريخ سوى توقيع اليوسفي لهذا الكتاب الملتبس. ويبدو العمل مختبرا للتناقضات المقلقة للثقافة العربية المابعد حداثية في بداية القرن الواحد والعشرين وبانوراما للتهكم وللسخرية الجارحة من كل العلاقات السياسية الراديكالية التي عصفت ببيروت في السبعينات والثمانينات وصولا إلى بداية التسعينات. ويهيمن على الرواية الحديث عن الحرية الجنسية الخالية من أي وشاح للفروسية او للايثارية فإلى أين تستطيع أن تقودنا الحماقات الجنسية والمواقف الجنسية العدمية أو العبث بالجنس بوصفه محرّكاً للراوية من أولها إلى آخرها. وتنتهي نهاية الكتاب بسؤال واحد: من هي راوية؟ وينسحب هذا السؤال على جميع الشخصيات؟ من هو الراوي؟ من هو عزوز المرداسي؟ من هي شروق؟ هل هم نماذج رمزية للمثقف المابعد حداثي الخارج من أتون الجنس ومن معترك اللعب بكافة الثوابت الإنسانية والثقافية؟ هكذا، وعندما يتم خلع القناع قبل الأخير تصبح الرواية كومة من أقنعة متراكمة فوق بعضها البعض. كما لو كان تاريخ بيروت في هذا الكتاب ليس سوى محترف فني تتنقّل في داخله شخصيات نصفها واقعي ونصفها الآخر خيالي. وهكذا تبدو الرواية متخيلة وواقعاً في آن. أي أن الكاتب اليوسفي يرسم الوقائع ومن ثم يشوّهها فيما بعد، ليعيد تشكيلها من جديد؛ يلائمها فيما بينها ثم يعيد اختراعها مثلما يعيد كتابتها. نحن بالتالي أمام رواية مرآتية تنعكس فيها أربع مرايا وما احتفال اللقاء في "بين ليل، ونهار يسكنه ليل" إلا ارتطام هذه المرايا ببعضها وتكسرها إلى شظايا بلا نهايات. يمزج هذا النص اليوسفي ما بين الأنواع الأدبية: ينتقل من السرد الواقعي إلى أقصى درجات المتخيل، فنجد أنفسنا أمام مجموعة من التساؤلات: هل نحن أمام قصة سردية أم أمام احتفال حكواتي؟ هل نحن أمام وقائع حية أعاد اليوسفي تشكيلها و"دوزنتها" أم نحن أمام تخيلات استيهامية تأخذ عناصرها من قصص واقعية مبثوثة هنا وهناك؟ المهم أن المتعة التي ترافق القارئ لهذه الرواية متعة حقيقية وملموسة، ربما بسبب الرشاقة الأسلوبية التي تتمتع بها الحساسية الشعرية لقلم اليوسفي وهو شاعر قبل أن يكون روائياً. فلقد أصدر محمد علي اليوسفي إضافة لأعماله الروائية ثلاثة دواوين شعرية: حافة الأرض، وامرأة سادسة للحواس، وليل الأجداد. وبعيدا عما إذا كان هذا الكتاب سيرة ذاتية للمؤلف اليوسفي أثناء إقامته في بيروت الحرب أم لا، فالأرجح أن اليوسفي كتب سيرة في سبيلها لإقصاء ذاته بعيدا عنها، وتحويلها إلى شاشة احتفالية والى ممر لأعمال أخرى، تأملية، وتأملات اليوسفي في الكتاب تستحوذ على السرد بل توقفه في أحيان كثيرة. واللافت في هذا الكتاب ما يذكره اليوسفي في فصل بعنوان "ثمار على الضفتين" من هواجس وهلوسات بلا فواصل ولا نقاط كما لو كان هذيانا في طائرة تقترب من مطار بيروت الدولي. إنه مانيفستو هذياني يتوجب على القارئ أن يعيد تنقيطه وصناعة كتابته من جديد، بينما كان من الأجدى لليوسفي أن يهتمّ بأن يجعل لهذا الهذيان، نقاطاً وفواصل وحركات. هذا المأخذ أو الخلل أضرّ بالكتاب ولا يشفع الطابع الهذياني للنص بمثل هذا الخلل. ولكن، ما يذكره اليوسفي في المقطع الرابع من حفلة ارتطام المرايا وتشظيها ببعضها، من طرائف المفارقات اللغوية للمفردات الشعبية بين المغرب العربي والمشرق العربي، يضفي رونقا مضحكا ومسليا على الكتاب. والثابت الذي لا يتغير ولا ينزاح ولا يتعرّض لدوامة التحولات في الرواية هو صوت أغاني فيروز الذي خصّه المؤلف بإهداء الكتاب: "عندما سكتت نطقت للأبد/ أي كما لم يغنّ أحد/ صُغْتُ من صمتها في دمي دورة/ طفلة، بعد تقضم لثغتها/ ثم لا تنتهي في زمان الجسد/ إلى فيروز.. والعائلة طبعا!". وفي تناول اليوسفي لكلمات فيروز عبر امتداد الرواية تتفاوت المقاربة لفيروز بين المديح حيناً والسخرية حيناً آخر والندم حيناً ثالثاً، والغفران بحثاً عن شفاعة فيروز حيناً رابعاً، فإذا بهذه المقاربة، يعفي اليوسفي نفسه من مهمة البحث عن مطهر يخرج إليه جحيم الانعكاسات الخيانية العربية اللبنانية مسدّداً فاتورة الوفاء لهذا المطهر الفيروزي الذي خصّ اليوسفي الكتاب بإهدائه.
مملكة الأخيضر
سيصعب العثور على ذاكرة روائية مباشرة وقريبة لعالم مملكة الأخيضر الطريف والبريء والبكر والمبتكر ربما نجد جذراً لها في نص «الأمير الصغير» لـ دو سانت اكزوبيري وامتدادا من «أليس في بلاد العجائب» لكارل لويس، ولا تخلو من ظلال خاطفة لزكريا تامر،
انها رواية تستعيد الطفولة قصداً كما يقول كولدرج في وصف الشعر وتعريفه.
وفي الاهداء المصدر للرواية يفصح الباحث والمترجم والروائي محمد علي اليوسفي صاحب رواية توقيت البنكا الفائزة بجائزة النقد للرواية عن فكرة الرواية المولودة مع ابنته الطفلة التي يهديها نصه في حاضنتها الزجاجية وقد استمر العمل فيها ثلاث سنوات ابتدع فيها 170 حكاية متقاطرة بمعدل حكاية لكل صفحة شكلت بتضافرها وتجدلها الحكاية الكبرى لمملكة الأخيضر، وعالمها الملون الخلاب.
مملكة الأخيضر حكاية فنتازيا وفيلم كرتون للكبار ورواية شعر لا شعر لغة لكن شعر تفاصيل وأحداث وحياة وعلاقات تحاول ريادة كوكب اسمه الطفولة.
«آسرة» هي الراوية وأبطال الرواية جدجودة و هي جدة (آسرة) التي تجاوز عمرها المئة وصار حجمها أقل من 1 و ترضع الببرونة!! بدلاً من حفيدها آسر وهو بطل الرواية الرضيع سنا والمراهق حركة والحكيم لغة والشاعر منطقا وبابا وماما وريحان والقط الأسود الشرير وهو ريحان أيضا رغم انه لا يشبه ريحان!! وبوشويشة الذي يقدم نفسه معرفاً على انه ليس آسر وقد يكون قطا أسود! ونمير الذي يعرفه آسر قائلا: «هو أخي الذي سيذهب إلى ماما وتلده» والكلب «تانجو» والجنديان التائهان «الدواس» و «اصبع الحناء» الذي يردد دوماً في حواراته جملة هزلية تحدد الوقت «وبوقرلو» وهو حشرة سوداء تقول الموسوعة المصورة انه الجعل، و «أبة» سائق سيارة الفحم الذي يردد الكلمات الأخيرة من كل حوار معكوسة و «ديدحان» مفكر الامبراطورية ورفيف الماء والتي عاشت في فقاعة ماء فناداها الهواء فخرجت بفستان قطيفة أحمر وكعب عال و«بربيش» راصد الكنوز وحامل الفخاخ و «كشبور» و«كرفوس» و «شبشوب» والشاعر الأبرق كردوس والرسام زاهي «بوتزريرة».
الرواية ملفعة بقدر من التضبيب الفني واللبس لكي يماثل عالم الطفل المتاهي والهارب، والطيفي فعندما يسأل آسر بوشويشة عن سبب تسميته بآسر يقول إن هذا اسم للكبار فهم قد اختاروه كي ينادوه به ثم يكشف له أن اسمه السري هو نمير! وعندما يسأل بوشويشة عن اسمه الحقيقي يجيب «هنا أم هناك» ثم يقول ربما كان اسمي الأول هو آسر فيستغرب آسر عن سبب حمله اسمه فيقول انه الاسم الذي يقودني إليك وأنا لا أدري؟ يعرّف ريحان الجغرافيا بأنها الخروج من البيت وثمة أربع طرق تقود إلى مملكة الأخيضر الطريق الأول هو التخيل وهو ينص أن فيها إوزا كثيراً وماء وحرساً أخضر، والطريق الثاني أن ينتظرها والطريق الثالث أن يذهب إليها، والطريق الرابع هي آسر نفسه! وفي الطريق إلى المملكة تجمع الحكاية ركابها فيركب في السيارة راكب جديد هو الرسام الزاهي بوترزيزة الذاهب إلى حيث «يغير الأمكنة التي تجمدت فيها العلامات» ثم الراكب الشاعر الأبرق كردوس الذي «فاتته الطفولة ولو عاد إليها لما عرفها» والموسيقار كعباشي الكراولي بلحنه الحكيم الصامت غير المعزوف «فأحسن موسيقى هي التي لا تعزف».
تزخر الرواية بالمفاجآت الشعرية والتأملات الفلسفية الكونية «الفكرة الصحيحة تأتي باكتشاف والخاطئة تأتي بالبيض». اختار الراوي تسمية طوباه ومكانه المحلوم والمأمول اسم مملكة الأخيضر كأنما ينشد مع بودلير «الجنة الخضراء للعشق الطفولي» وشعار المملكة ألوان تندفع بنفسها وتكتب في الفضاء مرحباً بالوقواق وفي المملكة سبع جهات سابعتها هي الباطن والحوارات تتم بصوت يأتي من الباطن وفيها مدرسة والمدرسة مهمة جداً في الحكاية «التي مثل الخدمة العسكرية بالنسبة للجندي» وعدة قرى مثل قرية السائرين في نومهم وقرية الزمن السكران وقرية الأشباح وقرية الأفراح وقرية الصمت».
وقرية الأميرة ننجال هي عاصمة الحكاية وفيها يتوجب على الآباء الذهاب إلى المدرسة كي يدرسهم الأبناء فيعاقب الأطفال آباءهم «اكتب مائة مرة لن أعود إلى الضحك وقت الدرس» انه يذكر هنا بمقولة الفيلسوف ديوي الشهيرة حول تحول الآباء إلى أبناء بعد ولادتهم و «ننجال» هي أطرف الشخصيات قاطبة، وفي إمارتها سبع ساعات من الفوضى يهرب فيها وزير الرياضة ليلعب بالكرة وحده والشعب كله يتفرج عليه ويلاحق وزير الثقافة الحشرات والسوس والأرضة التي تلتهم الكتب فيصطادها مستعينا بالمجهر وهو متمدد على بطنه ثم يجمعها ويصنفها ويحتفظ بها في وزارته ويقتصد وزير الاقتصاد المقتصد بطبعه وخاصة في الحساب مكتفياً بصفر في الميزانية حتى لا يتعبه الحساب! هذه اللغة الناقدة الساخرة المتسربة من عالم الكبار السياسي الواقعي لا تطغى على العالم الطفلي الطريف أو تخرجه عن جادته كأطروحة في اجتراح الخيال وكتابة رسالة غفران جديدة ومغايرة ليس فيها غير المرح ولا تحول النص السردي لرواية أيديولوجية فهي أبعد ما تكون عنها بطيرانها في سماوات البراءة وهضاب الخبث الطفلي واتقاد الخيال فيها و تناميه إلا أن ذلك لا يثنينا عن التفكير في الرواية كمهرب من مرارة واقع.
أحمد عمر
Le phénomène n'est pas nouveau. Le bon écrivain saisit toutes les occasions qui lui sont fournies pour délivrer son message. L'écriture littéraire réserve tant de possibilités qu'il ne reste à l'auteur que l'embarras du choix. Nous avons souligné, en temps voulu, la performance de Moustafa Fersi, né à Sfax en 1931, dans Mouvements/Voyelles ([Harakât], Tunis, MTE, 1978, 128 p.).
Rappelons brièvement de quoi il s'agit. En s'exprimant « à travers » les mots, on produit un texte littéraire tenant compte du sort réservé à la liberté d'expression. Le personnage principal, rural survivant dans les faubourgs, a pour ami un poète, sa voix, organe du peuple muet, qui lit une comédie sous forme de dialogue. Dans celle-ci, le poète, muet lui-même, est jugé pour avoir répandu des sentences proverbiales contre le régime. En le tuant, peut-être étouffera-t-on la révolte dans l'oeuf. Mais la mort ne fige pas la voix des orateurs.
Depuis une quarantaine d'années, Hasan Nasr alterne la publication de recueils de nouvelles et de romans, ouvrages en général peu abondants, mais bien écrits. La critique s'entend pour considérer cette oeuvre comme de la bonne littérature. Né à Tunis en 1937, il commence son apprentissage de la langue arabe au kouttab, puis à l'école primaire et à la Zitouna. Après avoir exercé divers métiers, dont celui d'instituteur, il part à Bagdad où il passe une licence d'Arabe. Il est professeur d'enseignement secondaire, aujourd'hui à la retraite, et effectue un séjour de coopération en Mauritanie. Sa production oscille entre le genre classique, bravoure et jactance, et la littérature socio-réaliste. Son premier roman Les corridors de la nuit ([Dahâlîz al-layl], Jadîd, 1977) campe un personnage d'enseignant à Mahdia, évoquant l'existence par de nombreuses images de ténèbres. Son deuxième roman Le pain de la terre ([Khubz al-ardh], MTE, 1985) décrit, d'une manière pathétique, la révolte des petites gens devant les projets économiques qui les écrasent.
Voici donc son huitième ouvrage, Les registres de Tête de Coq ([Sijillât Ra's al-Dîk], Tunis, Cérès, 2001, 92 p.). Un premier chapitre de neuf pages raconte que, dans la ville de Noun, il fallait raconter au roi une histoire sans lien avec le réel. Au vainqueur seraient attribués la fille du roi et le titre de ministre. Tous échouent jusqu'à l'arrivée de Jawwâl (« L'itinérant »). Faisant des courses pour sa grand-mère, il renverse la bouteille d'huile d'où sort Tête de Coq qui franchit les mers vers le pays où tout est sucre. Il pond un oeuf rond qui sauve les hommes du déluge. Cela lui vaut la fonction de chef. Toute infraction est notée dans des registres, enterrés puis découverts par des archéologues. Mis dans la mémoire d'un ordinateur, ils en ressortent dans une nouvelle version. Le deuxième chapitre contient le texte de soixante-cinq registres, numérotés. Tout y passe, de la vie de
l'auteur à des scènes d'animaux sauvages. Le dernier chapitre, de deux pages seulement, est une justification de l'auteur qui affirme préférer les histoires qui n'ont ni queue ni tête, plutôt qu'un roman bien construit.
Tel est donc le cadre général du livre. Ses sources sont claires. D'abord Le Livre des Animaux [Kitâb al-Hayawân] d'al-Jâhiz (décédé à Basra en Iraq en 868). C'est là qu'on apprend le rôle de l'oiseau fabuleux Roc, cité explicitement par le romancier qui le transforme, plus ou moins, en Tête de Coq : l'oeuf d'un coq, qui ne le sait pas, n'est rien. Ensuite Les Mille et Une Nuits, et en particulier les fameux voyages de Sindbad. Les références à la Tunisie et à son histoire sont également patentes. L'auteur privilégie le bon peuple, sans oublier ses héros révolutionnaires, tels que Ali Ben Ghedahem en 1863, et Jarjar en 1911. Le petit texte (sept lignes) sur le plat de ojja est exemplaire de la manière de l'auteur : après la description minutieuse de la préparation du mets, le personnage « s'assied pour prendre sa nourriture sur la table, sans manger la viande de qui que ce soit » (p.61). Au fil du déroulement du texte, les allusions à la situation présente se laissent deviner sans peine et, probablement, l'auteur a choisi ce langage imagé pour échapper aux foudres de la censure.
Ayant plusieurs cordes à son arc, Mohamed Ali Yousfi, depuis plus de vingt ans, s'est fait remarquer dans le domaine de la traduction (douze ouvrages, surtout d'écrivains d'Amérique latine), de la poésie (trois recueils au ton pessimiste, la sagesse a disparu de l'histoire), du roman (deux livres : Le Temps des lutins ([Tawqît al-binkâ], Londres, 1992) et Soleil des tuiles ([Chams al-qarâmîd], Tunis, Dâr al-Janûb, 1997) et de la critique (une étude de textes concernant l'insurrection palestinienne). Né à Tunis en 1950, il vit la question palestinienne de près, sur le terrain, puis à Chypre, avant de revenir au pays, où il travaille comme journaliste pour des revues étrangères.
Voici, cette année, son troisième roman : Le royaume d'Oukhaydhar ([Mamlakat al-Oukhaydhar], Damas, Dâr al-Talî`a l-Jadîda, 2001, 188 p.), où l'emprise de son imagination débridée se laisse encore plus sentir que dans ses deux premiers romans.
Après une présentation des personnages, presque sous forme de liste, une première partie se déroule loin du royaume d'Oukhaydhar. Le texte, mis dans la bouche de la soeur aînée, se compose de paragraphes, avec sous-titres, d'une page environ, décrivant divers aspects de la vie d'un enfant dont la famille déménage d'un immeuble de l'Ariana vers une villa de Raouad. La deuxième partie, un peu plus conséquente, se passe sur le chemin du royaume. La troisième partie, constituant la moitié du roman, concerne le vif du sujet : dédoublement de la personnalité des protagonistes, récits fabuleux. Quelques pages, pour terminer, supposent ce qu'aurait dû être le véritable début.
Le premier niveau de lecture de ce texte est l'aventure, comme peut l'imaginer un adolescent. Interviennent ici tous les insectes mirifiques possibles. Ils participent directement au déroulement du récit, ayant chacun sa propre personnalité.
Le deuxième niveau, plus symbolique, est celui de la gestation d'un enfant. En effet, la
soeur sait que sa mère est enceinte et elle se figure ce que sera son petit frère. Le royaume est l'utérus de la mère. L'enfant en sortira par césarienne. Mais, une fois né, tous les présupposés historiques et sociaux de sa famille s'effacent devant son propre destin.
Un troisième niveau de lecture apparaît en filigrane. C'est une prise de position sur l'actualité du pays. L'auteur intervient régulièrement dans le texte (p. 21, 23, 33, 95, 123, 187), comme c'était le cas dans plusieurs romans l'année dernière. On comprend ainsi que le récit féérique, même s'il est cohérent par lui-même, peut être un prétexte à réfléchir sur l'évolution présente du pays. Outre de nombreuses allusions directes à des faits observables aujourd'hui, la conquête d'un palais, par exemple, exactement comme dans le roman de Hasan Nasr, nous ramène à une réalité plus concrète.
Ces deux exemples sont-ils significatifs d'une nouvelle pratique littéraire utilisant les moyens du bord pour produire des textes de qualité malgré les obstacles ?
Jean Fontaine Fondateur et ancien président de la revue de l'Institut des belles lettres arabes (IBLA).Tunis.
Muhammad ‘Alî al-Yûsufî (né en 1950) est romancier, critique littéraire et traducteur. Son roman Tawqît al-Binkâ (« Le Temps des lutins », 1992) se conclue par le constat de l'absurdité de toute émigration, mais commence par une reprise massive d'une période heureuse passée à la campagne tunisienne, à l'ombre d'un grand-père et d'une grand-mère proprement légendaires. Combattant dans l'armée française, le grand-père avait offert du chocolat à une fille qui venait de perdre son père à la guerre, ce qui lui valut l'amour de la mère de la fille. Dans le voisinage des grands-parents, se trouve un Français qui a refusé de quitter le village après le départ des colons. Il « s'appropria » un terrain sur la colline, qu'il cultive et dont il vit. Le terrain appartient au grand-père du narrateur qui laisse faire le Français, consentant à ce que le terrain lui appartienne tant qu'il est en vie. Parlant bien l'arabe, celui-ci fait l'appel à la prière du haut de sa colline, où il ne risque d'être entendu que des reptiles et des oiseaux, ce qui l'enchante d'ailleurs, car il est aussi l'inventeur d'un langage pour communiquer avec eux.
La grand-mère, elle, mêlange dans sa tendresse les vivants et les morts, sa mémoire se refusant à enregistrer les décès et disparitions. Elle pleure et se frappe les joues en entendant dire qu'Untel, mort en vérité depuis des décennies, vient d'être arrêté pour ivresse. Le jeune narrateur Târiq comprend alors que si sa grand-mère lui permet de se dépayser et d'affoler le temps, c'est en compagnie de son grand-père qu'il aura toute chance de connaître les mœurs de la terre et les coutumes des plantes. Cependant, le vieillard lui dit qu'il était venu trop tard : quand les pères renient la terre et s'en vont loin d'elle, les petit-fils ne viennent que pour « renifler l'odeur des grands-pères », savoir de quelle étoffe ils sont faits et de quels récits ils sont capables.
C'est une telle paix qui se trouve saccagée dans le passage à la capitale, puis à Paris, où le narrateur fera les trente-six métiers, se sentant à jamais privé d'une sorte de poésie première à laquelle il lui fut donné de goûter au temps de son enfance. L'écriture poétique et assez dense de ce roman se condense encore plus dans un roman suivant et devient plus allégorique. Dans Shams al-Qarâmîd (« Soleil des tuiles », ici c'est un nom propre, 1997), le narrateur fait défiler des scènes d'une enfance idyllique passée dans le Nord de la Tunisie, entourée de récits merveilleux et de rapports éminemment transparents avec les êtres et l'espace. Mais voilà que le départ, comme dans le roman précédent, vient s'imposer comme une fatalité. Sauf qu'il est ici décrit de façon allégorique, ponctué par des épreuves initiatiques au terme desquelles le personnage central, lui-même narrateur du récit, comprend qu'en voulant contourner le lac de Sanhûrî, il a fait fausse route et doit rebrousser chemin pour essayer à nouveau. Puisqu'il lui faut de toutes façons s'immerger dans les eaux du lac, que ne l'a-t-il donc fait dès le début ? Tout au long de cette vaine traversée, il est habité par le souvenir de son frère disparu qui, tout en étant nu, lui avait conseillé de doubler ses vêtements et de prendre garde aux serpents, que l'on confond avec des cordes abandonnées sur la route. « Tout ce que nous perdons continue à briller à l'intérieur de nous », dit l'une des maximes disséminées par le narrateur à travers le roman et qui lui tiennent lieu de viatique. Et ce sont ces lumineuses maximes qui apportent en fin du compte la preuve que, malgré son échec tragique, il a bien gagné son pari et réussi sa traversée.
***
Mohamed Ali Yousfi
Un article de Wikipédia, l'encyclopédie libre.
Aller à : Navigation, Rechercher
Mohamed Ali Yousfi (محمد علي اليوسفي ،), né en 1950 à Béja, est un écrivain et traducteur tunisien.
Licencié en philosophie et sciences sociales, il termine son troisième cycle dans une université libanaise. Il publie en premier temps à Tunis puis au Moyen-Orient (Amman, Beyrouth et Damas).
En 1992 paraît son premier roman : Le temps des lutins (prix du meilleur roman arabe 1992). Son deuxième roman paraît cinq ans plus tard : Soleil des tuiles (prix du meilleur roman tunisien 1997).
Il propose par ailleurs une interprétation originale des textes concernant l'intifada palestinienne dans un ouvrage de critique littéraire : L'Alphabet de la pierre. Mais il traduit surtout divers auteurs en arabe : Gabriel García Márquez, Miguel Ángel Asturias, Alejo Carpentier, Shichiro Fukazawa, Álvaro Cepeda Samudio, Christine Bruet, Octavio Paz, une anthologie de la poésie grecque, la biographie de Níkos Kazantzákis, Les débuts de la philosophie bourgeoise de Max Horkheimer et Balzac et le réalisme français de Georg Lukács.
Autres publications [modifier]
- Lisière de la terre (poésie)
- La Nuit des ancêtres (poésie)
- Une sixième femme pour les sens (poésie)
- Le royaume de l'Oukhaidar (roman)
- Hier Beyrouth (roman)
- Dentella (roman)
- Seuils du paradis (roman)
Autres traductions [modifier]
- Emil Cioran : Fragments choisis
- Georges Bataille : Théorie de la religion
- Dai Sijie : Balzac et la petite tailleuse chinoise
- Guy de Maupassant : De Tunis à Kairouan
- Roger Icart : La révolution française à l'écran
- Éric Leguèbe : Un siècle de cinéma français
- Sentiers du vent (choix de poèmes) par Pierre Emmanuel, René Char, Alain Bosquet et Eugène Guillevic
*
fy
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق