أولاً: ما بعد الحداثة: ربما كان هشام القروي، على قلة إنتاجه الروائي وضعف تعبيره عن أطروحته واتجاهه، هو الأكثر تمثيلاً لنزعة ما بعد الحداثة في الكتابة الروائية في تونس، كما في نصيه "ن" (1983)، و"أعمدة الجنون السبعة" (1985). ما تزال تجليات ما بعد الحداثة عربياً تتلامح على نحو جزئي، في غير ذات نسق أو هي لا أنساق معرفية، أو تندرج في اتجاهات يركن إليها، سواء في توصيفها التاريخي والواقعي، أو في تطورها، أو في فهمها ونقدها، فثمة تنازع، على سبيل المثال، بين فهمها ظاهرة تاريخية مرافقة لتحول الحداثة إلى نقيضها، وبين نقدها المغالي بأنها "تحطيم كل ما هو إنساني".(7) ومن هذا المنطلق، استقبلت مقاربات الكتابة ما بعد الحداثية بريبة واستنكار، على أنها نفي مطلق للتقليد الأدبي، ناهيك عن الزعم أو الرأي بمعاداتها للتاريخي أو الإنساني، ولا يناسب مقام بحثنا أن نفرد القول في ذلك كله. وهكذا، تعامل النقد الروائي مع كتابة هشام القروي الروائية بحيرة واضحة، ربما لأن نزعتها التحديثية المطلقة تصطدم بالمعايير السائدة في فهم الرواية،ولعل ذكر نموذج نقدي واحد كاف للإشارة إلى الارتباك النقدي المتخصص مع هذا النمط من الكتابة الروائية. عزاها بوشوشة بن جمعة في كتابه "مباحث في رواية المغرب العربي" (1996) إلى التجريب (ص78- 89)، وسماها الرواية الذهنية (ص41)، ثم سماها في موقع آخر رواية اللغة (ص59). غير أن الكتابة الروائية ما بعد الحداثية تحتفي بهذه الأبعاد، لأن غلبة التجريب في بنائها، أو بروز اشتغالها اللغوي، أو أعمال الذهن والذهنية في نسق تنضيدها من سماتها، بالإضافة إلى سمات وخصائص أخرى لازمت نزعة ما بعد الحداثة. شكلت "ن" قطيعة مع التقليد الروائي، في ولعها بالمغايرة دون احتساب دواعي المنطق أو العقلنة، وفي حرصها على انكسار السرد منذ جملته الأولى "هاأنذا أعود إلى هذه المدينة "الغريبة".. ومن البداية لاحظوا أنني وضعت بين طفرين، وقد كنت أريد وضعهما للمدينة. غير أن يدي انزلقت! أو.. لا أعرف كيف أفسر ذلك!" (ص7). ونلاحظ أن السارد، وهو يغطي على نسقه السردي، فإنه ينطلق من سورة القلم في النص القرآني، ليذكر نتفاً من أحلام وكوابيس وأوهام رجل مطارد، مغترب، خائف، مع نفسه، ومع أقرب الناس إليه، ومن مجتمعه، ومن قوى مجهولة، غامضة. ثمة حافز يتكرر داخل المتن في الصفحات 29 و 59 و 72 و 102، ويكاد يوجز معنى كامناً لعناء هذا الرجل: "جاءوا في الفجر. طرقوا الباب طرقات عنيفة. انتزعت نفسي من الفراش. تحركت نحو الباب حركات آلية. كنت لا أزال دائخاً أو نائماً أو مخدراً.. أو ما يشبه ذلك! لا أعرف! فتحت. دهشت لرؤية المسدسات الموجهة إلى صدري. لم أفه بكلمة. لم أجد ما أقول. كانت وجوههم نصف مقنعة بنظارات سوداء كبيرة. كانوا أربعة. - أنت وليد الأرض؟ همهمت: -نـ.. نعم. -خذوه! وفي لحظة، وضعوا على عيني حجاباً. وفي الظلام، قيدوا يدي. وساقوني إلى عربة، دفعوني على المقعد. لم أقل شيئاً. لم أر شيئاً. لم أفهم شيئاً. فقط سمعت محرك السيارة يدور. كنت في طريقي نحو المجهول.. مع.." (ص29). ولا يضيف في الصفحة 59 سوى توضيح واحد، هو إضافة كلمة أخيرة: " كنت في طريقي إلى المجهول.. مع الوطاويط" (ص59). ثم يتكرر النص كما هو في الصفحة 72، ويظل الحافز تعبيراً عن حالة سكونية لا تنفع في تنامي الفعلية داخل المتن الحكائي، بل أن السارد يفصح عن اسم "وليد الأرض" الغامض، ولكنه يزيد الأمر غموضاً، فليس ثمة تاريخ خاص أو عام للاسم الجديد: "-أنت راجح سليمان؟ همهمت: -نـ.. نعم. -خذوه" (ص102). قضى السارد ردحاً من الزمن ينتظر قدومهم، حتى صار السرد كله للتناوب بين الانتظار والتخفي، فقد بذل السارد محاولات كثيرة للتمويه على شخصه وأحلامه منذ مطلع السرد، حين أطلق تسميته: "حلم رجل آخر" (ص6). ثم تقنع باسم "وليد الأرض" مثلما قنع مطارديه والقوى الغاشمة التي تحاصره: "الوطاويط"، وكان يواجه الجميع بأفكاره الملتبسة متردداً أيضاً، وقد وجد الخلاص بالحب: "لذلك أرى من الضروري أن أعلمك أن الحب هو حريتي، وهو الذي يجعلني قادراً على تجاوز كل شيء واختراق القوانين والمقدسات وتحطيم كل الأصنام والحواجز التي تمنعني من تحقيق ذاتي فيه" (ص88). ولكنه ينقض أمره تحت وطأة "اللامتوقع" (!؟) والإحساس بالمؤامرة بقوله: "الحب شيطان آخر" (ص96)، مؤكداً ألا "أهمية لكل ما نعيش؟ وهل يهم أن تهجرني امرأة بينما الأرض بأسرها والبشرية قاطبة مهددة بالانقراض؟ أية أهمية للحب، للوهم، للخلاص، لأي شيء؟ أية أهمية؟... أورانوس، بلوتون، ساتورن. الشمس السوداء، القمر المغزو، الكواكب متواطئة، مؤامرة على الأرض، مؤامرة على الأرض، مؤامرة على الأرض" (ص 98). ثم تغوص الرواية عميقاً في العدمية والأشباح وأطياف الموت: "ولم يبق في الأشجار سوى الولولة المجنونة، وعلى الجدران تلتمع إشارات مبهمة، وشددت الخطو، وأسرعت دافعاً جسمي وسط المتاهة منتظراً دليلاً واحداً يرشدني إلى الحياة، ويخرجني من سراب الموت" (ص101). داخل اللا تعيين وفقدان المنطق ومعارضة النظام وتهشيم الرؤية. بنى القروي نصه الروائي المتميز، على أن ثمة تطوراً في كتابته الروائية في نصه الثاني "أعمدة الجنون السبعة"، باتجاه الوضوح، وشحوب الخصائص التي لازمت نصه "ن" مما يقارب نزوعات ما بعد الحداثة. ويظهر هذا التطور باتجاه تاريخية ما للنص، وباتجاه انشغال موضوعي صريح، وباتجاه معارضة معلنة للعقل، وفي ذلك كله شيء من عقلنة. عارض القروي أولاً في عنوانه الحكمة بالجنون، على أن العالم يفتقد للعقل، أو أن "العالم ليس عقلاً" بتعبير عبد الله القصيمي، ورأى ثانياً أن ذلك يطبع الحياة المعاصرة والعمران البشري، ويختار مجالاً هو مثار شجن قومي وإنساني، أقصد الحرب الأهلية اللبنانية. وخاض القروي ثانياً في فضاء تاريخي محدد، بل إنه معني بالتاريخ منذ بداءة روايته حين سمى الفصل الأول "ريح سبتمبر"، وحين واجه أطراف الحرب الدائرة بأسمائها، وحين عني بالخريطة اللبنانية، جغرافية وجغرافية سياسية. ومن الواضح، أن القروي منشغل بموضوع صريح، ثالثاً، هو إدانة الحرب الأهلية اللبنانية. وسار على درب من ينهجون التقليد الأدبي، ربما على سبيل التهكم، إزاء معضلة المحاكاة والمرجعية الواقعية والتاريخية، فصدر نصه الروائي بكلمة معتادة "لابد منها" بتعبير القروي نفسه، ومفادها أن الكاتب يهمه "أن يشير إلى أن أحداث هذه الرواية وشخصياتها كلها من نسج الخيال. وكل اشتباه بأحداث وأشخاص واقعيين لا يمكن أن يكون من قبيل الصدفة طبعاً!" (ص10). ثانياً: رواية النص: تقترب رواية محمد علي اليوسفي من مفهوم "رواية النص" كثيراً، وهو مصطلح يراد له أن يوازي إطروحات "ما بعد الحداثة" أو "ما وراء الرواية"، وقد أثير هذا المصطلح في النقد الأنجلو سكسوني ليستوعب أمداء "الكتابة الروائية التي تستدعي الانتباه إلى ذاتها بشكل واع ومقصود فتنظم على أنها صنعة لكي تثير التساؤل حول العلاقة بين التخيل والواقع"(9). لقد وضع اليوسفي حتى الآن روايتين هما "توقيت البنكا" (1992)، و"شمس القراميد" (1997)، ويظهر فيهما معاً، بنسب متفاوتة مفهوم "رواية النص" كرواية مغايرة أو مختلفة في مواجهة التقليد وفي صوغ تقليدها الخاص، ونستطيع أن نتلمس ملامح هذا التقليد الخاص في التلاعب بالسرد، وكسر الإيقاع وتشظيه، وكسر الإيهام الصريح أو المضمر، والفذلكةالشكلية المتعمدة، والهجانة، والتلاعب بالمنظور السردي نحو تبئير متباين أو منسجم مع العرض والتوازن بين الميل الذاتي والميل الموضوعي، وغلبة حجم النص الغائب، والتداخل بين زمن الحكاية وزمن الخطاب. يتلاعب السارد بضمائره ويختلف، عن عمد، من المخاطب إلى الغائب إلى المتكلم ليروي أزمة الاغتراب والمغترب، ولكن الرواية تعنى بعمارتها المختلفة واعية بتلاعبها اليقظ بالحوافز وبسعيها إلى تحفيز جمالي يعتمد على عناصر سردية تتحالف مع هذه الحوافز في تنامي فعلية غارقة في معاينة الذات، باستعادة الماضي، أو الترقرق مع الحلم، أو مقاربة الواقع، أو الإمعان في الوصف منطبعاً على صفحات وجدان مترع بأهوال الذاكرة والواقع معاً. ينكسر السرد منذ "مدخل - خاتمة"، وعنوانها "ستغرب شمسك وتلوي رأسك"، متداخلاً مع بنائه، وهو يتركب من صيغ العنوانات الرئيسة والفرعية، ومن الفذلكات الشكلية، ومتن يتلامح ثم يهجع في حضن البيئة الشعبية، ليؤول السرد إلى "خاتمة- مدخل" وعنوانها "مازلت أحيا" تحمل النقيض، من صيغة الرواية الأساسية: تداخل الخيال مع الواقع من أجل تشريح الذات: "أنظر إلى الحياة منفصلة عني، أبداً، وأبدأ بتشريح ذاتي" (ص259). ليس بمقدورنا أن نعرض الحكاية، أو نناقش تعليلها الفني والبنائي لوفرة التفاصيل، فثمة من يعود إلى قريته من العاصمة، ومن يعود من باريس، وثمة علاقات بين أبناء الأجيال: الأجداد والآباء والأحفاد، غير أن نجاح صيغة "رواية النص" هو التوظيف الموفق للمأثورات الشعبية في الانشغالات الذاتية والوجدانية لذاكرة الشخوص، والمعول دائماً هو وعي الذات داخل هذه المأثورات التي صارت إلى شعائر وطقوس. كانت الأرض محك الانتماء ورابطة الوطن والألفة العائلية، وقد اصطدم هذا الانتماء بالتخلي عن هذه الأرض، مما يجعل الابن الصغير يواجه أباه: "لا حاجة بي إلى اسمك، ولا إلى غربتك، ولا إلى ثقافتك، فقدتك بتوقيتي" (ص175)، ومما يجعل الأب يعلن غضبه أيضاً على الغربة داخل الوطن، وهي التي تدفعهم إلى الغربة خارج الوطن (ص177- 178). وكان الأب يردد وهو سكران في باريس: "رخيص دمك في بلادك، وأرخص في بلاد الناس" (ص192). ولعل هذه الرواية من الروايات القليلة التي تصور وعي الآخر الغربي من خلال عنصريته في أكثر صورها جدة وقسوة، فيكون الرد هو قتل الآخر مادام قد خسر إقامته في الأرض (ص256)، وكأنه انتحار في منتهى الوعي. ويغرف اليوسفي في رواية "شمس القراميد" من الماء ذاته، منوعاً في سرده، مدخلاً الوقائع جميعها في جو فنتازي، يشي بنوع من تجنب مواجهة الواقع، وهي كانت حادة وقاسية في "توقيت البنكا"، ولا أعتقد أن ثمة "تقية" في ذلك، لأن عناصر سردية لجأ إليها اليوسفي تدعم متطلبات الوعي بالذات ونقد الواقع، كما هو الحال مع كسر الإيهام في العنوانات، وداخل المتن الحكائي نفسه في النصف الأخير من نصه الروائي مثل: "هذا فخ، لا أحد يريد حكايات"، و"لابدّ من مرحلة يرى فيها المرء أقل فيلجأ إلى إعادة الرؤيا"، و"ماذا يفعل أمريكي في هذه المنطقة المعزولة".. الخ. وثمة عناصر أخرى مثل دخول النص في الواقع مباشرة في الفصل الأخير "ظلّ أثر منهم في داخلي"، حين تسفر التبعية عن وجهها، وحين تخمل صورة الشعائر والطقوس في وجدان البطل- السارد، كالبنكا والعينوس: "شعرت بالوحشة مرة أخرى. سألته: -ألم تعد تفكر في العينوس؟ أجاب مبتسماً: - لا تخف! سوف نجده أمامنا كأية حكاية تفقد مكانها الأصلي، وتنتشر عبر الأزمنة. قد يظهر في المدينة كأي قروي نازح بعد أن فشل في أرضه المدينة مرآة ماصة تبتلع الزارع والمزروع. فلماذ ا لا يظهر العينو س هناك أيضاً؟ -وماذا عساه أن يفعل في المدينة؟ -قد يبحث عن عين زجاجية، وربما يتحول إلى مهرب أو شحاذ لا تنقصه التجربة والحيلة.. لم لا؟
- ومن أخبرك بكل هذه التفاصيل؟ -ها ها ها ... إذا لم يكن سهلون، فمن المؤكد أنه واحد من أتباعه الخمسين!" (ص232). بل لعل هذه الرواية أدخل في مواجهة الذات من أجل وعي أصلب بها عن طريق استعانة السرد بالحلم وبالفانتازيا وبمغالبة الموروث الشعبي، مما كان ظاهراً في نص "توقيت البنكا". ألم تكن طقوس البنكا والعينوس من مكونات الذاكرة المعيوشة والحاضرة لوطأة حضورها في وجدان الفتى الذي أصبح رجلاً في "شمس القراميد" مازال مسكوناً بها، وهو اليوم على مفترق طرق، فما تزال الأسئلة داهمة متطوحة بين الماضي والمستقبل: "لماذا الشعور بالخجل؟ قلت معزياً نفسي. يريد تدوين السير الشعبية؟ سوف ألفقها له كما اتفق، أو كما أتذكرها على الأقل، من دون جهد كبير. وقد أبيعهسيرتي الذاتية أيضاً، وإذا وجد فيها علاقة ما بتلك السير! هو الذي يستر عورتي الآن... ربما بسبب امتلائي بالماضي يخفيني هذا المستقبل المجهول" (ص233). تتجه "رواية النص" إلى مجانية الواقع بعد الانغمار به، ثم تمارس نقدها له في صورة الوعي بالتاريخ، أو كشف الواقع عن طريق تشوفه، وقد اختار اليوسفي صورة الوعي بالتاريخ متضامناً مع المأثورات الشعبية الثرة في "توقيت البنكا"، ومدار تشوف الواقع من خلال محاكمة الطقوس والشعائر والرموز الشعبية والموروثة مثل تراجع رموز البنكا والعينوس وما يرتبط بهما من طقوس وشعائر، ومثل مبدأ سرد الحكايات والسير الشعبية والتلاعب:اختلاقه والمتاجرة به، وهو أمر خطير حين يمتد هذا السرد إلى السيرة الذاتية. وهنا مكمن الغنى السردي ومحمولاته التخييلية، تجعل مغامرة التحديث أكثر ثقة وتطوراً انطلاقاً من مقدرتها على خلق تقليدها الخاص. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق