حوار مع الكاتب التونسي محمد علي اليوسفي ''نحن لا نقرأ أصلا، ولا ننجح إلا في الترجمة العشوائية'' محمد علي اليوسفي من مواليد مدينة باجة بالجمهورية التونسية 3 مارس 1950 تابع الدراسات العليا في الاختصاص ذاته بالجامعة اللبنانية خلال الحرب الأهلية· وفي الأثناء مارس الترجمة والكتابة والصحافة الثقافية في أبرز الصحف والمجلات السورية واللبنانية والفلسطينية· عاد إلى تونس ليستقر بها بعد عشرين عاما أمضى ثمانية منها في جزيرة قبرص· له العديد من الاعمال الابداعية من بينها في الشعر:حافة الأرض .1988 امرأة سادسة للحواس، .1998 ليل الأجداد، .1998 ليل الأحفاد، 2008 وفي الرواية: توقيت البِنْكَا .1992 شمس القراميد،·1997 مملكة الأخيْضَر، .2001 بيروت ونهر الخيانات، بيروت 2002 دانتيلا، .2005 عتبات الجنة، دار الفارابي، بيروت .2007 كما ترجم الكثير من الاعمال الأجنبية المهمة للعربية هنا لقاء مع هذا الكاتب المميز· حاوره: بشير مفتي كيف جاء الشاعر والروائي محمد على اليوسفي للكتابة؟ اختيارا أم صدفة؟ بدأ الأمر بالحكايات وتواصل بحب المطالعة منذ الطفولة، حتى أن مدرس الصف السادس الإبتدائي كلفني بمكتبة الصف التي كانت في حقيبتي المدرسية! وكان عليّ تأجير الكتب لزملائي الصغار مقابل عشرة مليمات على القصة، ومن فلوس الإعارات أشتري قصصا جديدة· تطورت مطالعاتي في الإعدادي وبدأت أقرأ الشعر العربي القديم والسير الشعبية وأقلد القصائد العمودية · وهكذا كانت البداية··· تكتب الشعر والرواية هل انت منسجم مع جنس دون آخر ام تجد تكاملا في ذلك؟ مرة سُئلْتُ أين تجد نفسك بالنسبة لكتاباتك في الشعر والرواية والترجمة؟ فأجبت: بيني وبين نفسي؛ أنا شاعر· وبيني وبين الآخرين؛ أنا روائي· وبيني وبين الجمهور الأعرض، بمن فيه السلطة وجواز السفر والجماهير العريضة، أنا كاتب صحفي ومترجم! ترجمت عدة أعمال أدبية للعربية؟ في رأيك لماذا نترجم؟ في الترجمة، كما خبرتها، مرحلة من مراحل الاستراحة من الكتابة الشخصية ومعايشة لأجواء أخرى تضنينا وتفيدنا في آن؛ تضنينا لأنها تتضمن جوانب تقنية وطول مثابرة وانتباه وأمانة؛ وتفيدنا لأنها تمكننا من القراءة الكثيفة والمعمقة، ومخالطة أساليب كتابية جديدة· والترجمة تتفوق علينا أيضا: فالكتاب المترجم أهم من كتاباتنا العربية عادة، سواء لدى الناشر أم لدى القارئ· والناشر في هذه الحال مستعد للدفع أيضا! وقد يكون في مغادرة الكتابة إلى الترجمة تنويع واستراحة لمن يمارس العمليتين معا؛ أي الكتابة والترجمة· شخصيا أنطلق في ترجمة النصوص بطريقتين: - الأولى تكون اقتراحا من الناشر وهي نادرة ومدعاة للريبة· ولا يمكنني الموافقة على ما يقترح إلا بعد تفاعلي مع النص· والمرة الوحيدة التي لم تكن مدعاة للريبة أو التردد حدثت مع ترجمة سيرة كازنتزاكي /المنشق/· -والطريقة الثانية هي أن أرشح الكتاب بنفسي· وفي هذه الحال قد أصطدم بالناشر وذوقه ودرجة اطلاعه· وفي هذا المجال لاقيت الأمرين في نشر عملين لكاتبين عالميين هما ماركيز وأوكتافيو باث· بالنسبة للأول لعب أسلوبه الصعب دورا في رفضه كما أنهم كانوا لم يسمعوا به بعد؛ وبالنسبة للثاني فقد طفْتُ به على دور نشر أربع فلم تنشر المختارات التي ترجمتها إلا دار نشر حديثة التأسيس وبعد توسط شاعرين صديقين لدى هذه الدار التي أنشأها أحد أقاربهما! وكانت المفاجأة أن ماركيز وباث نالا جائزة نوبل للآداب بعد الترجمة العربية مباشرة· ولكم أن تتخيلوا دهشة الناشر المحترم و··· أرباحه! في مجال ترجمة الرواية، لم يكن همي ترجمة كاتب معين بمقدار ميلي إلى تيار كتابي إن صح التعبير· الأدب المتميز بالتجديد والقدرة على الإدهاش وتغيير نظرتنا للواقع، سواء أكان متأتيا من اليابان أم من اليونان أم من أمريكا اللاتينية، وسواء أكان شعرا أم نثرا أم صورة· لذلك لا تستهويني ترجمة الكلاسيكيات الروائية، على أهميتها، فهي بالنسبة لي منجز تاريخي اطلعت على أهم عناوينه ولم تعد فيه مفاجأة الاكتشاف· كيف هو المشهد الأدبي في تونس اليوم؟ كثير الحيوية، مع فوضى عارمة بسبب غلبة الروح الاحتفالية (المهرجانتية!) ويتميز أيضا بظهور كتابة المرأة··· كيف تنظر لأزمة القراءة في عالمنا العربي؟ هي مشكلة حضارية، بالدرجة الأولى؛ نحن في تبعية استهلاكية· نفضل استهلاك الآخر وما جهّزه لنا· وثمة طبعا ظروف أخرى تربوية، وسياسية تتعلق بنظر السلطات إلى الثقافة وغير ذلك· كل ذلك أدّى إلى حلقة مفرغة مازال الكتاب العربي ـ مؤلفًا ومترجمًا ـ يدور حولها: أينبغي علينا أن نترجم حتى نقرأ، أم نقرأ حتى نترجم؟ أم أن المشكلة أوسع من كل ذلك بكثير: نحن لا نقرأ أصلا، ولا ننجح إلا في الترجمة العشوائية، لأن مشكلتنا مشكلة حضارية أساسا؛ مشكلة تبعية تُسْرع بنا إلى تقليد الأسهل والمريح في مجالات أخرى استهلاكية، مع رفع شعار المنفعة في تقليد الغالب ناسين أو متناسين دور المعرفة في غلبته وفي إشهاره لذلك السلاح الموجه إلى الروح الاستهلاكية· ماهي مشاريعك الحالية؟ صدرت لي مؤخرا مجموعة شعرية بعنوان / ليل الأحفاد/ عن المؤسسة السورية العامة للكتاب، وعدة كتب مترجمة بين سورية والأردن( أوكتافيو باث، إميل سيوران، جورج باتاي)، ورواية / عتبات الجنة/ في بيروت، وأرسلت برواية / شمس القراميد/ لإعادة طبعها هناك، فهذه الرواية رغم أنها حازت على /جائزة كومار- الريشة الذهبية/، وهي أهم جائزة للرواية في تونس، لم يطبع منها إلا ألف نسخة، حسب الناشر، وحتى عندما نفدت الطبعة كاملة رفض الناشر طبعها ثانية· ويعود ذلك، في رأيي، إلى بعض أمراض الكتاب في تونس؛ فالكتاب، في طبعته الثانية لا يحصل على منحة مساعدة من الدولة!!! أما غير ذلك، فأنا منكب على روايتي الجديدة التي لا أستطيع الحديث عنها بتاتا ما دامت في الورشة··· وإلا فسد الأمر! *** الجزائر نيوز- ملحق - الأثر - الأسبوعي |
***
مع الروائي والمترجم التونسي محمد علي اليوسفي
محاورة كمال الرياحي
" أتسلّل إلى أماكن جديدة فأحسب أنني بدأت أعرفها . كأن لي جسما مضيئا يشقّ عتمات تراكمت قبله، فتلملم نفسها و تتراكم خلفه من جديد ، تاركة أثرا من ذكرى عبور سابق . لكل منطقة ،أدخلها للمرة الأولى ،رائحة أولى ،و ألوان،و ضجيج. لكل شارع أكتشفه زوايا لا مرئية تتكتّم منذ الآن و لا تبوح بتفاصيل"رأيت و سمعت" تفاصيل"جئت و عشت" ، تلك التفاصيل التي سوف تفعل فعلها لاحقا و لا تبقى منها سوى ماض هارب تتحرك فيه رائحة مربكة،أطلبها،فلا يجيء بها زمن خارجي.هكذا تندثر الأمكنة أمام عيوننا وهي لا تزال محمّلة ببناياتها و صخبها. كأنما لكل لقاء طبقات حضور فينا،و نحن لا نصادف سوى الطبقة التي نقصدها في مكانها و زمانها." دانتيلا ص 34
أخيرا حطّ الرّحال في تونس ، موطنه الأصلي الذي تركه منذ ثلاثين عاما و راح يجوب الآفاق متنقّلا بين بيروت و دمشق و قبرص ....متقلّبا بين كتابة الشعر و الرواية و الترجمة و المقال النقدي . بدأ رحلته الابداعية على "حافة الأرض" سنة 1988 أين التقى ب"امرأة سادسة الحواس" في "ليل الأجداد" أثناء " توقيت البنكا" و تحت " شمس القراميد" بنى "مملكة الأخيضر " و عرف " بيروت و نهر الخيانات" و تأكّد ألاّ لغة خارج "أبجدية الحجارة " .
هو بلا شك محمد علي اليوسفي المترجم و الشاعر و الروائي التونسي نلتقيه في في بعض وجوهه ليكون لنا هذا الحديث عن راهن الترجمة و مآزقها و وضع الرواية العربية و آفاقها .
محمد علي اليوسفي روائيا
1- يقول كيليطو :" إذا أراد المرء أن يتجدّد فما عليه إلاّ أن يغترب، أن يبدّل مقامه، أن يغرب مثل الشمس " لنجعل هذه العبارة مدخلنا لعوالمك الإبداعية و الروائية تحديدا لنتحدّث عن الغربة و الغرابة و التغريبة. هل يحتاج الروائي إلى أن يغيّر المكان دائما بحثا عن عوالم روائية أو عوالم ملهمة ؟ كيف وجدت السفر انطلاقا من تجربة التيه و الترحال التي تعيشها؟
* في البداية يكون السفر جغرافيا ثم يتحول، مع التجربة والخبرة، إلى ترحال في الروح. أنا لم أسافر قط بدافع من الكتابة سافرت كإنسان في البداية. كنت أطبق المثل القائل إن في السفر سبع فوائد. ربما أدركت بعض تلك الفوائد وحصدت الكثير من الخسائر التي ألتفت إليها ساخرا لأطلق عليها اسما مباركا هو: التجربة! لا أعتقد أن السفر شرط لازم للكتابة لكنه عنصر مهم. ويمكن للمرء أن يكتفي بالسفر ضمن بضعة كيلومترات، كما فعل الكثير من الكتاب، ولم يمنع ذلك تفتق مواهبهم. إلى ذلك لاحظ الكثيرون أنني أكتب عن المكان القريب عندما أكون بعيدا عنه. ذلك ما حصل عندما كتبت رواية "توقيت البنكا" وأنا في قبرص، بينما لم أكتب تجربتي في حصار بيروت إلا بعد سنوات، وفي تونس! ومؤخرا انتهيت من كتابة رواية جديدة أنهيتها في دمشق، رغم أنني سافرت بمخطوطتها المرهقة، الهاربة، سنوات بين عدة عواصم. يبدو في هذه الحال أن هناك مزيدا من شفافية الرؤية عندما تتم عن بعد وبعيدا عن مشاغل الحياة اليومية اللصيقة بالمكان الذي تكتب عنه. وقت السفر والإقامة في بلد غريب لا تكون معنيا "بالجانب الإداري" للمكان، إن صح التعبير.
2- تنهض روايتك " توقيت البنكا " على شخصية عجائبية أو خرافية هي البنكا. وهي كائن صغير بحجم الإصبع . من أين اقتطفت هذه الشخصية من الكتب التراثية أم من الحكي الشفوي و الخرافات التي تسكن قرانا في الشمال الغربي التونسي ؟
* هي من كل ذلك: من حكايات الطفولة، ومن كتب تونسية تراثية ساعدتني كثيرا، وخصوصا كتاب "الأغاني التونسية" لمؤلفه الصادق الرزقي. وهو كتاب لا يقتصر على الأغاني بل جاء قريبا نسبيا من كتاب الأغاني للأصفهاني.
3- هل أردت بشخصيتي طارق وزياد أن تعارض شخصية طارق بن زياد التاريخية ؟
* في البداية لم أكن أقصد ذلك. وربما لعب الفشل في المكان( وهو أوروبا) دورا في معارضة الحاضر بالماضي إمعانا في المفارقة. حتى أن الشخصية التي تحمل ذلك الاسم كانت مدركة لشرطها التاريخي.
4- هل كانت شمس القراميد تتمة لتوقيت البنكا إذ بينهما وشائج كثيرة ؟
* لا أعتقد ذلك. ربما جاء التقارب من عدة عناصر منها التركيز على طفولة الشخصيات وطفولة المكان( أقصد القفز بين قرنين في مجريات الأحداث ) يضاف إلى ذلك التركيز على المخيّلة الشعبية.
5- يتحدّث بعض النقّاد في الغرب عمّا يسمّونه بأصالة الفكرة. هل استطاع الروائي العربي أن ينتج أفكارا أصيلة به أم انه لم ينتج إلا مكرّرا ؟ كيف تقرأ أصالة الفكرة ؟
* على خطى القول المأثور؛ أقول إن كل الأفكار ملقاة على قارعة الطريق. وربما كانت الأصالة لا تكمن إلا في طريقة صياغتها وإخراجها. لاحظ مثلا كم من الكتاب العالميين قد نجحوا من خلال طريقتهم الأصيلة في " تقليد" حكايات ألف ليلة وليلة!
6- يقال إن الشاعر فقد مكانته لصالح الروائي و الروائي بدأ يفقد مكانته لصالح كاتب المحاولة أو المقال . هل تتفق معهم في أننا نعيش زمن المحاولة؟
* كلا! كلهم ضحية الصورة!
7- يتداخل في شمس القراميد الخطاب الشعري بالخطاب الروائي . متى يصبح الشعر والشاعرية في الرواية مأزقا بالنسبة لشعرية الرواية ؟ و متى يحقق إضافة نوعية؟
* هذا موضوع يهمني كثيرا: ما أؤمن به وأسعى إليه هو كيفية جعل الشعر متأتيا من شعرية الأمكنة ومن علاقات الشخوص إنْ حبًّا أو كرها( جمالية القبح!) وليس من تدفق رومنسي للغة. ثمة عنصر مهم في الرواية- وإلا كفّتْ عن أن تكون كذلك – وهو الإيقاع؛ إيقاع الأحداث وسيطرة الحكاية بما يشبه الهاجس.
8 ـ يرفع بعض الكتاب اليوم أسماء لأجناس هجينة مثل " الرواية الشعرية " أنت المتقلّب بين الجنسين : الشعر و الرواية هل تؤمن بهذه التصنيفات و التلوينات ؟
* مصطلح " الرواية الشعرية" موجود ومعترف به. ومن أبرز الذين نظّروا له إيف تادييه. المشكلة في النتائج التي تخرج بها التطبيقات، وأبرزها الثرثرة اللغوية التي تتعلل بالشعر. لابد من مبرر لكل جملة شاعرية يجعلها في خدمة الأحداث والشخصيات والعلاقات التي بينها، فضلا عن سبر لاوعيها بما يخدم طريقة أفعالها الواعية.
9- تقيم اليوم و لو بشكل مؤقّت في مدينة الورود أريانة. هل يمكن للمدن الهادئة و مدن الورود أن تكون فضاءات نموذجيّة لروايات عظيمة؟ أليست تلك الفضاءات شعرية أكثر منها روائية ؟
* لا أجد شعرا في أريانة. ولا أشاهد وردا. أرى الإسمنت والطرقات والسيارات. مرة غضب مني صديق أصيل أريانة لأنني قلت له مثل هذا الكلام. سوء التفاهم نجم عن كونه كان يتحدث عن ذكريات طفولته في أريانة، بينما كنت أتحدث عن مستقبل طفولته: أي الحاضر. وفي الواقع لا أستطيع الكتابة في مكان جميل لأنني وقتها أعيش فيه. قد يشحنني لاحقا فأتأهب لإغلاق ستائري وأجنحتي.
10- كانت بيروت الحرب الأهلية مدينة للثقافة، هل يعني هذا أن الثقافة يمكن أن تزدهر في ظلّ خراب العمران؟
* الأسوأ ليس خراب العمران، بل خراب الأرواح. قبل الحرب الأخيرة كنتُ في بيروت ولاحظت كم كانت، وأهلها، قادرين على النهوض من الخراب. بلدان عربية كثيرة لم تنهض من شيء، رغم أنها لم تعش خرابا للعمران. اسأل يا أخي عن خراب الأرواح في البلدان " المطمئنة "، المغلقة على عمرانها الخانق وبشرها المخنوق.
***
محمد علي اليوسفي مترجما
***
1- يوصف المترجم بأنّه " يد ثانية " مقارنة بأصالة المبدع. هل تشعر بهذا وأنت تغادر قلعة الإبداع الشعري و الروائي إلى الترجمة ؟
× يمكن الحديث عن الترجمة باعتبارها "فعلا ثانيا" مستقلا عن الكتابة الشخصية بوصفها كذلك. ويمكن بالأحرى القول إنها "يد ثالثة!" ففيها وبواسطتها يأتي اطلاع جديد ومعرفة جديدة ومعاشرة لشخص آخر: هو زميل آخر يشبهنا أو يفوقنا. في الترجمة ـ عدا الوساطة والتوسط ـ ثمة معايشة حميمة للحظة الكتابة الأصلية لدى الكاتب الأول أو المؤلف الذي نترجم نصه. الترجمة تعادل قراءة النص نفسه عشرات المرات والتمكن من اكتشاف التفاصيل التي تخص المؤلف وأسلوب التأليف عنده؛ لذلك أجد أن الأصعب في ترجمة أيما كتاب يكمن في الصفحات العشر الأولى تقريبا: بعدها تتم معايشة الأسلوب وطريقة تركيب الجملة وما إلى ذلك، وقد يصل بك الأمر إلى اكتشاف أسرار الكتابة لدى المؤلف...
في الترجمة أيضا، كما خبرتها، مرحلة من مراحل الاستراحة من الكتابة الشخصية ومعايشة لأجواء أخرى تضنينا وتفيدنا في آن؛ تضنينا لأنها تتضمن جوانب تقنية وطول مثابرة وانتباه وأمانة؛ وتفيدنا لأنها تمكننا من القراءة الكثيفة والمعمقة، ومخالطة أساليب كتابية جديدة.
والترجمة تتفوق علينا أيضا: فالكتاب المترجم أهم من كتاباتنا العربية عادة، سواء لدى الناشر أم لدى القارئ. والناشر في هذه الحال مستعد للدفع أيضا!
وقد يكون في مغادرة الكتابة إلى الترجمة تنويع واستراحة لمن يمارس العمليتين معا؛ أي الكتابة والترجمة.
2- يرى كثير من المنشغلين بحقل الترجمة أنّها لا عفويّة و أنها تنطلق من خلف موقف إيديولوجي محدّد. ما هي دوافع محمد علي اليوسفي للترجمة؟ كيف تختار نصوصك؟ هل هي الجمالية؟ وهل يمكن للجمالية أن تكون إيديولوجيا ؟
× بالتأكيد! الترجمة لا تكون عفوية أبدا. ففي الحد الأدنى يسبقها اختيار وميل وقصد... ووراء كل ذلك موقف، والموقف لا بد أن ينبثق من منطلقات فكرية وجمالية هي في المحصلة منطلقات إيديولوجية سواء أكانت واعية أم لاواعية. يبقى أنه لا بد من التفريق بين الخيار الإيديولوجي والسياسي المباشر ( وهذا هدفه آنيّ ونفعي خالص) وبين الخيار المنبثق من أهداف جمالية لا تخلو من خدمة الإيديولوجيا؛ بل إنها تسعى إلى عدم ترك الغلبة لها: أقصد الابتعاد عن التبشير و"البروبقندة" المرحلية؛ وهنا يتنافر الفن مع الإيديولوجيا في المرحليّ والإستراتيجي!
والفرق بين الفنيّ والسياسي يكمن طبعا في النظرة الإستراتيجية أولا؛ وفي تغليب ما هو فني على ما هو تكتيكي أو تبشيري بتيار سياسي معين.
شخصيا أنطلق في ترجمة النصوص بطريقتين: الأولى تكون اقتراحا من الناشر وهي نادرة ومدعاة للريبة. ولا يمكنني الموافقة على ما يقترح إلا بعد تفاعلي مع النص. والمرة الوحيدة التي لم تكن مدعاة للريبة أو التردد حدثت مع ترجمة سيرة كازنتزاكي "المنشق".
والطريقة الثانية هي أن أرشح الكتاب بنفسي. وفي هذه الحال قد أصطدم بالناشر وذوقه ودرجة اطلاعه. وفي هذا المجال لاقيت الأمرين في نشر عملين لكاتبين عالميين هما ماركيز وأوكتافيو باث. بالنسبة للأول لعب أسلوبه الصعب دورا في رفضه كما أنهم كانوا لم يسمعوا به بعد؛ وبالنسبة للثاني فقد طفْتُ به على دور نشر أربع فلم تنشر المختارات التي ترجمتها إلا دار نشر حديثة التأسيس وبعد توسط شاعرين صديقين لدى هذه الدار التي أنشأها أحد أقاربهما! وكانت المفاجأة أن ماركيز وباث نالا جائزة نوبل للآداب بعد الترجمة العربية مباشرة. ولك أن تتخيل دهشة الناشر المحترم و... أرباحه!
3- يقول الكسندر بوشكين :" المترجمون خيول بريد التنوير" هل مازال المترجم يحمل هذا الوجه؟ في ظلّ تملّص كل الكتاب من شعراء و روائيين و مسرحيين و سينمائيين من قضيّة الرسالة التنويرية وأصبحوا يرفعون شعار الفنّ للفن؟
× حتى في ادعاء نظرية الفن للفن ثمة تنوير ما! إن ادعاء الفن للفن قد يقدم ما هو أفضل من رداءة الواقعية عندما يبلغ معها الإسفاف حدودا صارخة. في فعل الترجمة اطلاع حاصل وإن لم يعد كافيا وحده في هذا العصر. انتشار اللغات الأجنبية، وإن بشكل محدود، هو في حد ذاته جزء من عملية الترجمة. فما بالك بالإنترنت وما إلى ذلك!
لقد تداخلت الفنون وتشابكت، وهاهي تجد نفسها في معترك تشتد فيه المنافسة ويضيق فيه الإقبال؛ ولم يعد للنص المكتوب ذلك الوهج " التنويري" الممكن. ظل مقتصرا على النخبة، واشتد الحصار عليه. حتى الفنون الأخرى تشهد مثل هذه المنافسة فيصل بها الأمر إلى النظر في المرآة لتأمّل وجهها: إنه تأمل لا يخلو من توغل في التهمة المزدراة؛ تهمة الفن للفن. وهي على أية حال، تهمة قابلة للجدل وربما الدحض. وقد نكتفي بالقول إنها نسبية في درجاتها وصفائها.
4- هل كل ما يترجم اليوم صالح للقراءة ؟ وهل نحتاج إلى مؤسسة تقنّن هذا الحقل وتضع له حدودا وتخرجه من هوى المترجم و مزاجيته ؟
لا يقتصر الأمر على هذه الفوضى الفردية فحسب: هناك فوضى مؤسساتية أيضا تعكس بدورها مثل هذه الفوضى في الترجمة. فكم من عنوان يترجم ثلاث مرات في الفترة نفسها وكم من مؤسسة تنشأ مبشرة بحل مشاكل الترجمة فتسقط في منزلقاتها.
فإلى جانب اهتمامنا بالترجمة، والحديث عنها في الكثير من المناسبات، لا تكاد تمر فترة من الزمن حتى نسمع بالإعلان عن نشأة مؤسسة جديدة متخصصة في الترجمة. وحتى في وقت الإعلان عن الولادة الجديدة لتلك المؤسسة يكون غيرها من المؤسسات قد أعلن عن عقد مؤتمرات وندوات ولقاءات تتعلق بالترجمة وشجونها.
فبعد الجهود التي تولتها المؤسسات الرسمية ووزارات الثقافة، جزئيا، وكذلك جهود دور النشر الخاصة المتسمة بالفوضى وتردي مستوى الترجمة وعدم التنسيق، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة توجه الثروة المالية إلى الانفتاح على المشاريع الثقافية بما فيها مجال الترجمة.
كثرة المؤسسات المتخصصة في الترجمة تعكس إدراكا لأهميتها من جهة، واعترافا صريحا بتخلف العرب في هذا الميدان. ولقد بات من المعروف للجميع مدى الفضائح التي تكشفت عنها الإحصائيات العالمية الأخيرة الصادرة عن اليونسكو وعن عدد من الهيئات العربية حول مرتبة العرب بالنسبة لعدد الكتب المترجمة سنويا، قياسا ببلدان أخرى أقل سكانا، سواء من البلدان المتقدمة أم من تلك التي لا تُعدّ بعيدة كثيرا عن البلدان العربية في تصنيف العالم الثالث، على غرار بعض دول أمريكا اللاتينية مثلا.
غير أن كثرة المؤسسات ـ إن سلّمنا بكثرتهاـ لم تبرهن على تحسن في أحوال الترجمة، كمًّا ونوعًا؛ بل يمكن الحديث عن تراكم كمي مؤسساتي أكثر من التراكم المعرفي. يضاف إلى ذلك إصابة تلك المؤسسات بآفة الاحتفالات الرسمية والوجاهية. لذلك كثيرا ما نسمع شكاوى المثقفين من تغييبهم في شأن يعتبرونه شأنهم أولا وأخيرا، بينما يتم الاحتفال بالوجوه الرسمية التي يكشف حضورها المكثف عن آلية عمل هذه المؤسسات.
ما تشكو منه الترجمة في البلدان العربية ليس غياب المؤسسة بل أساليب عملها وإدارتها ونوعية سلطة الإشراف فيها. ولا بد من التأكيد على نقطة مهمة تتعلق بمدى ارتباطها ـ خارج عزلتها وطابعها الرسمي ـ بما يريده القارئ العربي الذي تتكلم هذه المؤسسة باسمه وباسم احتياجاته المعرفية.
حلقة مفرغة مازال الكتاب العربي ـ مؤلفًا ومترجمًا ـ يدور حولها: أينبغي علينا أن نترجم حتى نقرأ، أم نقرأ حتى نترجم؟ أم أن المشكلة أوسع من كل ذلك بكثير: نحن لا نقرأ أصلا، ولا ننجح إلا في الترجمة العشوائية، لأن مشكلتنا مشكلة حضارية أساسا؛ مشكلة تبعية تُسْرع بنا إلى تقليد الأسهل والمريح في مجالات أخرى استهلاكية، مع رفع شعار المنفعة في تقليد الغالب ناسين أو متناسين دور المعرفة في غلبته وفي إشهاره لذلك السلاح الموجه إلى الروح الاستهلاكية.
- هل هناك فرق بين قيمة ما يترجم في المشرق و ما يترجم في المغرب ؟
ثمَّة انطباع، في المغرب العربي، يزعم أن "الشرقيين"، أو "إخواننا المشارقة"، لا يجيدون الترجمة. وبالتالي فإنه لا يمكن الوثوق بالترجمات الكثيرة التي ترد علينا من لبنان وسوريا ومصر خاصة. هذا الزعم المعمًّم، يكون أكثر رواجاً في الأوساط الجامعية. وقد يجد استثناءات قليلة مثل الاعتراف بجودة الترجمات التي تركها الدكتور سامي الدروبي أو غيره.
وبالنظر إلى أن بلدان المغرب العربية هي بالأحرى بلدان القلّة والاستثناء، إذْ كثيراً ما يلفت الانتباه فيها مفكّر واحد، أو شاعر وحيد، أو مخرج عالمي لا يتكرّر، فإنّ ذلك الاستثناء يلعب دوراً مهيّجاً في حرب غير معلنة على الشرق. إنها حرب الأطراف، التي بدأت ولم تنته، على المركز، ولو بجندي واحد، أو بفرقة صغيرة من المشاة.
لعب الازدواج اللغوي، غير المتوازن عموماً، دوراً مهمّاً في كشف مغالطات المترجمين المشارقة (لا تعجبني هذه الكلمة ـ المصطلح ومع ذلك استخدمها بسياقها المعبّر عن الذات وهي تتحرّك ضامنة مسافة ابتعاد عن موضوع أحكامها: المشارقة). وهذا الازدواج اللغوي تحرّك، ويتحرّك ضمن اللغة الفرنسيّة وحدها ـ مع قليل من الإسبانية في المغرب والإيطالية في ليبيا. أي أنه تحرك ضمن إمكانية الرصد والمتابعة والمقارنة.
هكذا، وكما يقول المثل الشعبي فإن "المتفرّج فارس" والذي لا يترجم كثيراً، أو لا يترجم بالمرّة، ينتقد من يترجم كثيراً، لكنها ترجمات سيئة. ونذكر في هذا السياق، حتَّى لا نتورط أكثر في الترجمات ذات العلاقة بالعلوم والعلوم الإنسانية، تلك الزوبعة التي حرّكها مترجم تونسي، هو علي اللواتي، الذي قرر أن يكون مترجماً بسبب أخطاء أدونيس في ترجمة أعمال الشاعر الفرنسي الكبير سان جون بيرس. وبعدها لم يعد إلى الترجمة في حدود علمنا.
وفي مثل هذه المبارزات يكون الفعل "ترصّديا" استثنائياً بالضرورة. وتكون النتيجة: توافر الدقّة مقابل غياب الجماليّة! (إنما الحكمة لواحد). دقة الترجمة تأخذها إلى طرح المسألة بوجهيْها. أو لنقل بشطريها المشرقي، والمغربي. أذكر أن بطل رواية "المسرّات والأوجاع" لفؤاد التكرلي، أحسّ بحاجة إلى النوم، فتناول كتاباً مغاربيّاً مترجماً ليقرأه قبل أن ينام! وقد وُوجه التكرلي بسؤال احتجاجي حول هذا الموضوع، في برنامج تلفزي تونسي، فتخلّص من الإحراج بإجابة مراوغة تنكّبت الفكاهة!
من المعروف أن إجادة اللغة المنقول منها، لا تكفي لخلق نص مترجم جيّد، إذا كانت اللغة المنقول إليها، وهي هنا العربية، تشكو من فقر، أو ضعف، أو بالخصوص، من غلبة أحد طرفي المعادلة الازدواجيّة لغويّاً. وهكذا يأتي النص العربي ثقيلاً، دقَيقاً، وفيّاً وفاءً أعمى للأصل، أي أنه لا يتمكن من أن يصير نصّاً عربياً، أو معرّباً. في الترجمة "المغاربية" يكون الفهم الأوّلي للنص الأصلي دقيقاً. أمَّا التشويش فيظهر في النص المعرّب. وفي الترجمة "المشارقية" (المشرق مشارق كما هو المغرب مغارب!) تكاد عيوب الفهم تختفي لتوافر طلاوة اللغة المنقول إليها (أي العربية) وإن كان ذلك على حساب الدقة أحياناً.
- ما هي مزالق الترجمة المغاربية و مشاكلها ؟
- في الترجمة المغاربية نجد أن هناك من جهة، مشكلة هيمنة اللغة الفرنسية التي من المفترض أن النقل والترجمة يتمّان عنها، في الدرجة الأولى، مقارنة باللغات الأخرى. مع العلم أن هيمنة اللغة الفرنسية وانتشارها المتجدّد (خوفاً من العولمة) لم يتركا آثاراً في النص المترجم وحده، بل في نسق الجملة العربية نفسها، كتابةً. ومن جهة ثانية يأتي النص المترجم عنها، أي عن اللغة الفرنسية، نصّاً هجيناً صعب القراءة أو الهضم، لأسباب متعددة، تتجاوز ما ذكرناه آنفاً، إلى أسباب
أخرى يمكن محاولة حصرها في ما يلي:
ـ كثرة المصطلحات المتأتية من اجتهادات شخصية غير متفق عليها بنوع من الإجماع.
ـ إثقال النصوص المترجمة بإيراد التعابير، وأحياناً الجمل، والمصطلحات الفرنسية، بلغتها، خوفاً من مجانبة الدقة أو عدم إيصال الفكرة باللغة المترجم إليها.
ـ مسايرة النص الجديد، الناجم عن الترجمة، لبنيْة النص الأصلي من حيث الصياغة، وبناء الجملة، والترجمة الحرفية أحياناً. فتكون النتيجة أننا أمام نص مترجم أصعب من النص الأصلي في مجال التقبل والفهم (لمن يجيد لغة النص الأصلي) وأجيز لنفسي القول، في هذا السياق، إنَّ قراءة جوليا كريستيفا، وأمثالها، في اللغة الفرنسية، أسهل عليّ بكثير، من محاولة فهمها في ترجمة مغاربية. وحتى لا نظلم المترجم جزافاً، قد نجد له عذراً خفيّاً يكمن في صعوبة نقل مناخ نقدي جديد إلى لغة لم "تتربَّ" عليه أو فيه! وهكذا يتفرّع النقد المغاربي إلى وجهَين:
ـ لغة النقّاد الناقلين لجوليا كريستفيا وأمثالها، مع "تعالٍ" عليها، وانتقاد لها، أحياناً، خصوصاً لدى النقاد الجامعيين الشباب!
ـ لغة النقاد المتبجّحين بالجملة العربية التراثية ومصطلحات القرن الرابع الهجري مثلاً.
وبمقدار ما تزداد الترجمات المتعلّقة بالنقد والمدارس النقدية، وكذلك العلوم الإنسانية، تنتفي، أو تكاد، ترجمة الأعمال الإبداعية.
وثمَّة انطباع لدى الناشرين "المشارقة" أن القارئ المغاربي لا يحب الكتب المترجمة. وهو انطباع سريع، يتطلّب التأنّي والتحليل. فما هي نسبة مطالعة الكتاب المحلّي والعربي أوّلاً؟ وإلى أيّ مدى يمكن التعميم والقول إنَّ جميع القراء يطالعون، أو هم قادرون على المطالعة بالفرنسية مباشرة، يمكن، فقط، حذف الفرنكوفونيين وحذف من يجيدون اللغات الأصلية المترجم عنها، من المجموعة الضئيل أصلاً، ليتحرّك الكتاب الإبداعي في مجال ضيق.
وهذه الأحكام لا تنطبق حصراً إلاّ على الكتب الإبداعية نظراً إلى أن المؤلفات ذات الصلة بالنقد والعلوم الإنسانية تجد احتياطيّها من القراء، لدى الطلاب الذين يترجم لهم الأساتذة في المجال الأوّل. فالكتاب في المغرب العربي، يضمحّل متراجعاً إلى دائرة الاختصاص، أكثر. وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى آفة مغاربية بامتياز. وهي "الكتب الموازية" أي الكتب الأدبية المواكبة للمناهج التدريسية سواء في المرحلة الثانية أم في الجامعة.
- و ماذا عن المترجم المشرقي و هفواته ؟
- قلنا إنَّ إجادة اللغة العربية، كثيراً ما توفّر للمترجم المشرقي "الحاوي" غطاءً لستر عيوبه، عيوب الترجمة، فالكثرة هنا لا تجيد اللغة الأجنبية التي يجيدها. وهو قد "يفهم عن" القارئ، وينقل أفكار الآخرين كما فهمها. وبعيداً عن التعميم ينبغي التمييز بين ترجمة تقدّمها دار نشر خاصة، وأخرى تصدر عن جهة لها مدقّقون ولجان قراءة ومراجعة. ولا شك أنه لا يجوز المقارنة بين ترجمة تصدر عن وزارة الثقافة السورية مثلاً، وأخرى عن مؤسسة دار الهلال في مصر. سقت هذا المثال بمناسبة قراءة متأخرة لرواية آن تيلر "دروس التنفّس" الحائزة على جائزة بوليتزر سنة 1989 والصادرة عن دار الهلال سنة 1991 بترجمة عبد الحميد فهمي الجمال. في هذه الترجمة، لم نعد أمام أحد "الحواة" القادرين على ستر عيوب الترجمة بلغة عربية سليمة. فإلى الأخطاء المطبعية التي تحفل بها كتب دار الهلال، إذا لم يواكبها مؤلفها برعاية خاصة، نجد نوعين من النّكد... ولهما ثالث. النكد الثالث متأتّ من طبيعة الجملة العربية وهي تسير بقدرات إنكليزية.
النكد الثاني، ادّعاء المترجم، ممارسةً، إنَّ الكلمات الأجنبية المستخدمة في العامية المصرية، ذات أولوية، كما يفعل كتّاب مصريون آخرون، أولهم أدوار الخراط.
وهكذا نقرأ: الفيرندا، البلكونة، الموتور، الكوبون الروب، البنسيون، الكاونتر، البوكيه إلخ...
وكأنّ "باقة ورد" أصعب من "بوكيه ورد" لمن استطاع الصبر على قراءة رواية باللغة الفصحى!
أمَّا النكد الأوّل فهو أن تقرأ أخطاء يستطيع تلميذ ابتدائي تجاوزها بقليل من المران والرعاية والتوجيه، على غرار "عيناها الزرقاوتان!! (نعم! راجع الكتاب).
أيجوز بعد ذلك لوم مذيعات نشرات الأخبار، في المحطات الفضائية العربية، التي ينشر الفضاء غسيلها المحلّي؟ أم أن هذا مجرّد استثناء، يبني عليه مغاربيّ آخر، أحكامه؟
5- لماذا اخترت ترجمة المنشق كازانتزاكي مثلا ؟
× في الواقع، وكما أشرت سابقا، لم تكن ترجمة المنشق انطلاقا من اختيار شخصي؛ فقد كان المجمع الثقافي في أبو ظبي ينوي إقامة أسبوع احتفالي بالكاتب اليوناني الكبير نيكوس كازنتزاكي، وتم الاتصال بي لترجمة هذا الكتاب الذي ألفته زوجته باللغة الفرنسية مباشرة. فوافقت طبعا، خصوصا وأن ترجمته تتضمن إنصافا مزدوجا، أدبيا وماديا؛ وتلك حالات نادرة حقا!
6- هل يمكن للترجمة أن تمثّل خطرا على هويّة اللغة التي تترجم إليها وهوية متكلّميها؟
× خطر؟ وماذا نقول عن فعل الشارع، ووسائل الاتصال الحديثة، وتفضيل اللغات الأجنبية في البيع والشراء والدعاية وتربية الأطفال على أيدي شغالات مستوردات و... و... و...
ألم يبق لتدنيس اللغة إلا الترجمة؟ يتم الحديث عن مثل هذا الخطر في مجال الشعر؛ وقصيدة النثر تحديدا؛ لكنها مقدسات زائفة مازالت تتعلق بالمكتوب ولا تكترث للمخاطر الحقيقية التي تأتي بها الصورة والشبكة العنكبوتية وغير ذلك. وحتى ما ذكرته سابقا من استخدام للكلمات الأجنبية في الترجمات المصرية لا يأتي في اعتقادي من الترجمة في حد ذاتها، بل من اختيار واع بشرت به الكتابة قبل الترجمة كما في مثال ادوارد الخراط. والسبب في زعمهم هو محاولة الاقتراب من نبض الشارع والاستخدامات السائدة فيه! وهو ادعاء مغلوط يتطلب ـ إنْ نحن سايرناه إلى النهاية ـ اعتماد نبض الشارع بالتمام والكمال أي الكتابة بخليط من العامية المتداخلة مع اللغات الأجنبية الدخيلة، فضلا عن الفصحى...
7- هل ساهمت ترجمة الروايات العالمية حسب رأيك و انطلاقا من تجربتك في تطوّر الرواية العربية أم دفعت الروائي العربي إلى استنساخ أشكال تلك الروايات وترديد تيماتها؟
× في كل الأحوال لسنا أمة رواية؛ وكان لابد من الاستنساخ والتقليد كما تفعل كل الأمم التي تكتشف شيئا ينقصها. هذا ما فعله الحكيم وطه حسين ومحفوظ والمنفلوطي وغيرهم وكانوا يؤسسون فيما هم يقلدون أو يستنسخون. الترجمة المعاكسة التي تمت في الغرب أدت بدورها إلى مثل هذه العملية. وهاهم لا يكفون عن تقليد "ألف ليلة وليلة " مثلا، من القرن السادس عشر الى بورخس وباولو كويلهو...
الترجمة لم تساهم في تطور الرواية العربية فحسب بل كانت السبب وراء تأسيسها أيضا.
8- هل فعلا يبقى تطوّر اللغة العربية رهين حركة جدّية للترجمة ؟
أصحاب هذه الرأي يرون أن الحاجة أم الاختراع و أن الترجمة ستدفع المترجم و اللغوي إلى الاجتهاد بحثا عن بدائل للمصطلح الغربي و هذا سيحرّك المياه اللغوية الراكدة للعربية و يبعث فيها دماء جديدة؟
× تطور اللغة العربية متوقف على تطور أهل اللغة العربية. أما الترجمة فهي جزء من كل، ولعلها لم تعد كذلك إن نحن أخذنا بالاعتبار تفشي البدائل المتمثلة في تبني لغة المستعمر بنسبة قد تتجاوز الخمسين بالمائة كما هو الأمر في البلدان المغاربية ـ ماعدا ليبيا ـ وكذلك بلدان الخليج. لغة "البزنس" والعولمة لم تعد العربية!
9- ربّما يكون مشروع جورج طرابيشي ترجمة أعمال فرويد وأدبيات التحليل النفسي في وقت من الأوقات ورّبما ارتبط مشروع هاشم صالح باستعادة فكر محمد أركون... أي مشروع يتّخذه محمد علي اليوسفي ضمن انشغالاته بالترجمة؟
المثالان المذكوران يختصان بمشاريع فكرية تحديدا وهي مشاريع تتطلب ممن بدأها أن يستكملها. في مجال الأدب، وهذا اختصاصي، لا يمكن التحدث عن كاتب واحد بل عن تيار كتابي إن صح التعبير. الأدب المتميز بالتجديد والقدرة على الإدهاش وتغيير نظرتنا للواقع، سواء أكان متأتيا من اليابان أم من اليونان أم من أمريكا اللاتينية، وسواء أكان شعرا أم نثرا أم صورة. لذلك لا تستهويني ترجمة الكلاسيكيات الروائية، على أهميتها، فهي بالنسبة لي منجز تاريخي اطلعت على أهم عناوينه ولم تعد فيه مفاجأة الاكتشاف.
10- اتّهم المنفلوطي بالسطو على أعمال غيره في وقت من الأوقات من خلال تلك الاقتباسات. كيف تقيّم ما أقدم عليه المنفلوطي وفق النظرة الجديدة للترجمة و حقوق المؤلّف؟
×المنفلوطي تصرف مثل تراجمة العهود السحيقة. ذهب إلى الحج فعاد بعلوم الآخرين قائلا إنها علومه من دون تنكر لمن تتلمذ عليهم! لقد أخضع المستورد لما يمكن أن يُستهلك أو يُهضم! شغفنا به في مرحلة وتنكرنا له لاحقا إنه يشبه صورة الأجداد.
11- ما رأيك في المثل القائل :" الترجمة كالمرأة . إذا كانت جميلة فهي غير أمينة . و إذا كانت أمينة فهي غير جميلة "؟ أين تضع ترجماتك في خانة الجمال أم في خانة الأمانة ؟
× في هذا القول تعميم وظلم للمشبه والمشبه به!
شخصيا لا أستطيع تقويم ترجماتي استنادا إلى هذا المقياس. غير أنني أميل كثيرا وأسعى جاهدا إلى التوفيق بين الجمالية والأمانة؛ لذلك أمقت مصطلح التعريب وأفضل عليه مصطلح الترجمة، ولا أتوانى عن اللجوء إلى الترجمة الحرفية عندما أرى أنها لا تضر بالنص المنقول إلى لغته الجديدة الحاضنة ، لكن من دون حماقة آلية.
12- هتف أنطون مقدسي يوما بالمترجم أنطون حمصي عندما همّ بترجمة رواية "حديقة النباتات" لكلود سيمون قائلا :" لا تقترب من كلود سيمون ،إنه الكاتب الذي لا يترجم " و مع ذلك ترجم الرواية .
ما هي الرواية التي تمنّعت على محمد علي اليوسفي ورفضت أن تترجم إلى العربية بسهولة؟ و ما هي أوجه الصعوبة في شكلها أم في مناخها أم في لغتها ؟
×
التمنع في رأيي لا يأتي من النص في حد ذاته، انطلاقا من رؤيتي للترجمة، كما ذكرت بعض أركانها لتوّي، بل من المتلقي الذي قد يفسر صعوبة فهمه للرواية المترجمة بقصور لدى المترجم. وهذا ما حصل لي مع ترجمة " خريف البطريرك " لماركيز في بداية الثمانينات. فمن المعروف أن غابرييل غارسيا ماركيز كتب روايته بلغة شعرية تفوق لغة رواياته الأخرى، كما استخدم الأسلوب الدائري الخالي من الفقرات والتنقيط والحوار للبرهنة على دائرية الزمن المغلق تحت الحكم الدكتاتوري. كل ذلك حُسب على المترجم في البداية!
وهذا ما يفسر لجوء مترجم آخر للرواية نفسها إلى " تشذيب النص " وإعادة توزيع فقراته وحواراته في ترجمة صدرت لاحقا في بيروت؛ إنه مترجم وفيّ لجدّه المنفلوطي!
لم تتمنع عليَّ ترجمة كتاب معيّن بقدر ما وجدت الكثير من التحدي والتعب وفرحة الاكتشاف واللقى الجميلة، كما لو كنت كاتب النص!
13- انشغلت رواية أمريكا اللاتينية بصورة الدكتاتور ونجحت في حين فشلت التجارب العربية لمقاربة تلك الصورة ما هي أسباب هذا الإخفاق و ذلك النجاح حسب رأيك ؟
× هذا السؤال مهم؛ ولعل أهميته تعادل صعوبة المجازفة بمحاولة إيجاد إجابة سريعة وحاسمة الآن! سؤال يتطلب النظر والتمحيص والدراسة؛ أعتقد أنها ستكون دراسة سوسيولوجية ونفسية وأدبية وتاريخية في آن ... دراسة ذات أبعاد دينية أيضا، لِمَ لا؟ خصوصا في ما يتعلق بنظرتنا اللاتاريخية للفرد والحكم المنزل وإطاعة أولي الأمر وما إلى ذلك...
ومن العناصر المهمة التي نجحت بها رواية الدكتاتور في أمريكا اللاتينية قراءة الواقع انطلاقا من آثاره وظلاله الفانتازية وليس انطلاقا من تسجيله بطريقة آلية كما تفعل الرواية المسطحة؛ أي اعتبار الواقع أكثر تعقيدا وتخييلا من تمظهره الفيزيائي المعطى!
14- ما هي الفروق الكبرى بين الرواية اليابانية ورواية أمريكا اللاتينية كما لمستها خلال ترجمتك لنماذج من هذه الروايات ؟
* رواية أمريكا اللاتينية غابة، بل هي أدغال؛ و الرواية اليابانية حديقة تعتمد النمنمة.
***
الكاتب التونسي محمد علي اليوسفي أبـوالقاسم الشابي شاعـر درجــة ثانية
|
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق