***
***
شذرات
ترتقي الأغنية عندما تحاول تثبيت الزمن الهارب. أجمل الأغاني وأبقاها هي التي حاولت ذلك. هنا سكنت فيروز مثلاً.
للحواس أيضًا أمكنة؛ لذلك نذهب أحيانًا إلى قطعة موسيقى أو قصيدة.
لا يمكن أن تبدأ كتابًا إلا إذا انتهى.
يكبر الشعراء وتظل قصائدهم تتسلّق شجرة ما...
يأتي الإنسان إلى الدنيا ليكرر نفسه؛ يسمي ذلك تطورًا، ويُسكن السعادة في الماضي. الإنسان ينظر إلى المستقبل وهو يكبر نحو الماضي.
نظل نتأرجح ما بين قديرين: الحب والموت. لكن الحب وحده هو الذي يكررنا.
حتى الجسد يتذكر؛ لكنه لا يستطيع الترميز فيلجأ إلى التكرار.
تعلُّم الحياة يستغرق الحياة كلَّها.
الحياة مثل الأم: في البداية تُعطي فقط، ثم تطالب.
في كل اسم بقية من ماضٍ مقدّس أو...مدنس.
الحييْوان والبويضة: ما قبل التاريخ، بالنسبة للكائن.
الحكمة تفقد جدواها أكثر؛ لأن التقنية لا تنقلها إلى الأجيال.
في ألعاب الكومبيوتر يتسلى طفلنا ممارسًا القتل بلا ضمير.
أما نحن، الكبار، فنعيش، ونظل نعيش، حتى نتوصل إلى قتل الطفل الذي فينا.
في حالة الضعف تتكاثف إطلالات الموتى علينا.
نتقبل فكرة الموت؛ لكننا نؤجلها دومًا.
إذا شتمت الحاضر صرت نبيا في خدمة من سوف يتحكم في المستقبل.
الحركة الكامنة في دولة تعقب دولة حققت للكثير من الموتى رغبتهم السابقة في الحياة!
أعمق برميل منذور للنشوة يفرغ من سائله، أو قد يتغير سائله. لكن ما من أحد ليجيب.
أول ما يعود إلينا بعد النوم: السمع. مع أن الأذن هي آخر ما ينام.
أي خطأ بين قبلتين يعود باللسان إلى وظيفة الكلام: لا بد أن تُصقل الجوهرة من جديد.
كلب أهل الكهف، هدهد سليمان، خروف إبراهيم، ناقة صالح، بقرة اليهود، حمار المسيح، ذئبة روما، بومة هيغل(...)؛ لم يمر أي حلزون في جوقة المعرفة.
وبعد
عندما لا تنضج الحياة كثيرًا، لا ينضج الموت، بدوره، أكثر... هكذا أصف موت الأطفال!
***
ربما كان التفاؤل هو الذي قاد، ومازال يقود، صانعي التاريخ؛ أما التشاؤم فيأتي من... مراقبيه.
فتنة المرئي
ما دعاه جيرار ميلر " فتنة المرئي" هو الذي يجعل الآخرين مفتونين بتفاصيل حياة المتفوقين، ولا سيما "النجوم" منهم. كثيرًا ما يفعل الآخرون ما نريد فعله. أما إذا سقطوا فإننا نلتفت خفيةً ونقدمهم قربانًا... لأنهم تجرأوا وفعلوا ما لم نفعل.
كهوف النرجس
الكاتب كائن ممتلئ ومستوحش في آن؛ يعيش وحشته ( توحشه؟) ويسوّرها بعوالم متخيَّلة ذات أسس لا تقطع مع الواقع، لكنها لا تخلو من هشاشة وألم وأوهام: تستدعي النجم وتُعلي في المطلق شرفاتها. غير أن خدشًا بسيطًا يكون كفيلاً بإحداث شرخ، يهدد المبنى الذي يقوم على خسارة الواقع، وواقع الخسارة المرميّ في المجهول. عندئذ تتحرك وحشة الكائن نحو العنف ( لا شيء أكثر عمقًا وحقيقة مما تخفيه تلك الوحشة: من هنا قوة المشاعر الدنيئة).
***
من أين يأتي العنف؟
من نقطة يبلغها الكائن بين الربح والخسارة؛ لذلك يظل العنف كامنًا أو مراوحًا بين الواقع المعيش والواقع المبتكر. وبالنسبة للكاتب: عندما لا يؤمِّن الأثر المبتكر حصانة فعلية لهشاشة الكائن في ضعفه المقيم، و عندما تكون نتيجة فعل الكاتب(والمفترض أنه فعل إبداعي) مجرد عمل انفعالي، فيزيولوجي، لم يخرجه من انفعال الوحشة إلى ابتكار ما يمكث في الأرض: الأثر الفني.
***
لمَ يكون الكاتب، أو الفنان، كائنًا ممتلئًا بذاته؟
لأنه يجعل من ذاته موضوع مرآته( فنّه)؛ فلا يوجد في "الداخل" إلا هو، ولا يوجد في "الخارج" إلا مرآته. ولا بد أن تعيد له المرآة (الخارج) صورة ذاته، كما يريدها، لا كما تكون. ومن الذي يرضى بالاعتداء على ذاته من مرآته ( صورة النرجس في الماء ) ؟
***
من أين يأتي العنف؟ ( تتمّة)
ضعف الكائن يستبطن عنفه. والدفاع يكون شرسًا، عنيفًا، مطّردًا مع الضعف. إنها شراسة الوحشة إذْ تشقّ الليل عن أنياب لامعة. لذلك نجد الكتّاب، الفنانين، الكبار لا يردّون علينا، وربما لا يحقدون كثيرًا، وإنْ كانوا يستفيدون من صخبنا( من الذي تحدّث عن الذباب المزعج للخيول الأصيلة: غوركي أم تولستوي؟)
***
ظاهرة (1)
تتدخل الجوانب الاجتماعية وصفات النفوذ( جامعيًّا، نقديًّا، سياسيًّا...) في "شهرة" الكاتب من خارج نصه، وفي الإعلاء من مكانته لدى تناول أعماله.
***
ظاهرة (2)
يشكل الشغب إطارًا ممكنًا للنص، ولصورة الفنان في المدينة: ألم يكن المتنبي، ألم يكن رامبو...؟
***
سؤال:
لمَ يبرهن المثقف في أحيان كثيرة على ضيق صدر يتجاوز رجل السياسة؟
فإذا هو يتجاوز النميمة، إلى الاستقواء، فالاستعداء، فالتخوين، وصولاً إلى المطالبة بالتجريد من حق المواطنة؟ أكان أفلاطون على حق عندما أخرجهم، أو أخرج بعضهم، من جمهوريته؟
***
خاتمة عن الوحشة والكهوف:
كلنا ضحايا الصورة...
وكانت الصورة
في البدء،
قد نزلت من الكهوف الموحشة...
***
عن دوافع الكتابة
يصعب تحديد دوافع الكتابة بعد التورط فيها؛ في البدء يكون كل شيء انفتاحا، تكون الكتابة بحثا عن الحلم والأمل المطلق أيضا. ثم يتعرى كل شيء مع تقدم التجربة والعمر. وتبقى الكتابة لأنها التصقت بنا كوظيفة (كدور للممارسة) مهما كانت الخسارة. ثم تلوح لنا عزاء، ثم رثاء لما بعد موتنا عن الكون، وبقائه رغما عنا. فهل أخطأنا بالمجيء إليه، حتى نكرر الخطأ ونحن نقترب من مغادرته؟
الكتابة إخراج لتلك المشاعر والأفكار إلى حيز بعيد عن التوتر وقريب من لعبة التشكل والوجود، أي إفراغ الامتلاء، وصولا إلى خواء جديد يعاد البحث عن ردمه...
قد تتغير الإجابة بتغير الأمكنة.
هل الكتابة مهنة كغيرها من المهن؟ لكن أين؟ عندنا أم عندهم؟ الكتابة عندنا اعتراف مؤجل بالموتى، إنتاج لا يؤدي إلا إلى الريبة في الطمأنينة المؤقتة. حب؟ بل كان حبا. تبدأ الكتابة حبا وتنتهي زواجا، مسؤولية، وأطفالا وضرائب، وجيرانا. فهل تدمر؟ تدمر البعض كما يفعل السيل أحيانا، وينجو كثيرون منه حاملين معهم ما خف وزنه وبخس ثمنه. أنانية؟ كلا. ضياع في الآخرين. تلبيس حيوات الآخرين لك بينما هم يعبرون، يربحون ويخسرون، وأنت تحصي ممتلكاتهم وخسائرهم. رغبة في الخلق؟ نعم. والانتقام أيضا. والقتل أيضا. والديمومة، ومآرب أخرى. لا بد من سبب لمن يمارس هذه اللعبة؟ وكل ما سبق ألم يكن أسبابا؟ أنت لماذا تكتب؟ هل هي إصبع اتهام هذه (الأنت)؟ ها أنذا أخاف واسكت.
استسقاء
منذ بضعة أعوام كان هناك شاعر شاب ينوي نشر ديوانه الأول " وسوف يكون مفاجأة الموسم؛ إنه الشاعر الحقيقي القادم بعد عقود من العقم شبه التام...ولا ضير أن يكون قد طبع ديوانه الأول على نفقته الخاصة، كما يحدث كثيرًا هذه الأيام."
والآن: صدرت مائة مجموعة شعرية لمائة شاعر( طبعًا أكثر!)
فمن هو ذلك الشاعر الذي بدأ بالوعيد؟ وما اسم ديوانه؟
***
لماذا نتسامح مع المغني عندما يقلد، ويكتفي بالتقليد، أو يشتهر بأغنية واحدة "مؤقتة" بينما يظل الشاعر مبتدئا- ربما طيلة حياته؟ يستطيع المغني أن يكون مؤدّيًا، مجرد مؤدٍّ؛ وصوته هو سلاحه. أما في مجال الكتابة فلا يكفي الصوت، لأنه قد يقتصر على الصراخ، والنميمة، والادعاء...
***
الأغنية قد تكون مجرد نسمة تضيع في ثنايا الريح، أما الكتابة فجمهورها أقل وأرقى، وطموحها البقاء، وربما الخلود.
***
هل الشعر في بلداننا بخير؟
إذا كان في عافية: لمَ يكثر السائرون في مأتمه؟
وإذا لم يكن ميتًا: لمَ يكثر الاحتفاء به في الملتقيات والمهرجانات الخ...
لمَ لا تكون في كل هذا المعارك والصخب والحركة، بركة البحث عنه: صلاة استسقاء!
***
انظروا: الشعر في الغناء، الشعر في المسرح، الشعر في اللوحة، الشعر في النثر، والشعر في السينما...
لكن أين الشعر في القصيدة ؟
***
الشاعر الروائي، الشاعر الناقد، الشاعر المسرحي... يوزعون الشعر " في جسوم كثيرة " .
والقصيدة ؟ أتربح من ذلك أم توزع خسارتها بذارًا في حقول كثيرة ؟
***
سوف يوافقني الكثيرون على هذا الرأي؛
ولكن قد نتفق نظريًّا فقط ، بسبب اختلافات أخرى، لها علاقة بالمنطلقات وبالنتائج!
فكلٌّ، في مجال القصيدة، يندب ليلاه !
الترجمة بوصفها امرأة
كثيرا ما يتم الحديث عن دقة الترجمة باعتبارها خيانة. لكنها خيانة _ إنْ نحن سلّمنا بذلك _ تشبه محاولتك تلقين طفلك ما لا يفهمه عقله بعد. عليك أن تفهم أنت أولا، كيف تنقل ما تفهمه، إلى عقل يريد الفهم، بطريقته، وبحدود لغته.
والترجمة في أدنى درجاتها عمل إنساني نبيل حتى وإن لم تقم به كما ينبغي. في هذه الحال سوف يكون دورك أشبه بعابر سبيل يعترضه سائح أجنبي ويطلب منه بعض المعلومات عن شوارع المدينة؛ هل ندعوك خائنا إذا أنت ساعدته بلغة أجنبية ضعيفة، ركيكة و"مكسرة "؟ أم ننتظر حتى يتعلم ذلك السائح لغة البلاد التي يزورها؟
في الترجمة مواكبة في الترجمة مواكبة للنص المترجم ومحاولة لتنزيله في اللغة المترجم إليها أو اللغة المضيفة. فهل يحل نصا جديدا أم يظل كما كان في الأصل؟ بتلخيص غير علمي بتاتا، يمكن القول عن ذلك النص الجديد المترجم: إنه يشبه صديقة جميلة، من إحدى البلدان الأجنبية. ترافقك زوجة إلى بيئتك الأصلية.
أما نجاح إقامتها فإنه يتوقف على مدى انفتاحك، وانفتاح مجتمعك، كما يتوقف على درجة الليونة التي تتمتع بها تلك الزوجة الجديدة لجهة التكيف بلا أحكام مسبقة.
وطن في حقيبتين
يشدنا البيت إلى الأرض لأننا لسنا سلاحف. فنضطر ـ إذا غادرناه ـ إلى اختزاله في حقيبة.
*
درع السلحفاة ليس بيتا: هو غرفة نوم فقط. لذلك تقضي السلحفاة ما تبقى من شؤونها، خارجه.
*
نحن أيضا عندما نسافر نغير غرفة نومنا فقط؛ أما بقية شؤوننا فتكون في أكثر من مكان. هكذا نتحرك، تاركين المنزل الأول، وحنيننا دوما إليه.
*
نتحرك صحبة الحقيبة التي تنقل ما يلاصق جلدنا ويعتني به. علاقتنا الحميمة بحقيبتنا لا تمنع تطفل الآخرين، باسم الهدايا، أو باسم الأمن.
*
ثمة من يملأ حقيبته كما يملأ بطنه: يرمي فيها بكل شيء، كما اتفق، ويغلقها. وثمة من يعتني بها مثل خزانة تفتقر إلى رفوف.
*
قبل نشأة البنوك، كانت الحقائب من حديد وخشب، واليوم غلب عليها البلاستيك. يا لكثرة أكياس البلاستيك! إذا ادعى كيس أنه حقيبة فعليك أن تفرغه وسوف يطير مع أول هبة.
*
الحقيبة التي لا تغادر يدك أثناء السفر هي الأثمن ـ بعضهم يجعلها الأثقل متحايلا على شروط الوزن ـ أما تلك التي ترمي بها إلى الشحن، فهي عزيزٌ يغيب مؤقتا، وتتمنى له أن يصل، معك، سالمًا.
*
كل الحقائب... تصل. وأنت استثناء متكرر: حدثْني إذن عن حقيبتك التي ضاعتْ. لا تبالغ أرجوك، كما يفعل الجميع، في إعادة تثمين ما ضاع: هكذا يغدو الكلام بديلا من ضائع. لكنه، على أية حال، لا يدخل ضمن التعويضات.
*
وإليكم قصة لص الحقائب:
رأيته في محطة القطارات بمدينة ميلانو، يقف تحت الجدار المقابل لكشك يبيع السجائر والجرائد، وبجانبه حقيبة كبيرة جدا، عرفت فيما بعد أنها فارغة وقد حزّ جزءها الأسفل، وهيّأ ثغرة واسعة تحت مقبضها، في انتظار الضحية: وقف المسافر أمام الكشك وضع حقيبته أرضا وانشغل بالشراء والدفع. تقدم لص الحقائب غمر حقيبة المسافر بحقيبته الكبيرة المفرغة وأمسك بها من مقبضها الذي برز من الثغرة، ثم انصرف في منتهى الهدوء...
*
في حقيبة جدتي الخشبية خبّأتُ أول حبيبة؛ كانت تملأ دفتري بالكلمات...
*
في حقيبتك كتب وأقراص مدمجة: توازن بين الخفة والحجم، بين السعة والثقل، بين اتساع كالأفق وجاذبية تعيدك إلى البيت.
*
حقيبتك القديمة سوف تجد من يجدها جديدة، فتكون لها ذكرياتها التي لا تبوح بها، وتكون له ذكريات عن حقيبة أخرى غيرها.
*
حقائب الأطفال تدفع بهم عتّالين على مرافئ العلم.
*
حقائب النساء وصال خفيف بيننا وأجسادهن.
*
افتحْ حقيبة غيرك سرًّا وسوف تلتفت؛ إنْ لم تلتفت بوجهك فسوف تفعل بقلبك. آخر صديق ودّعته يفتح حقائب غيره سرًّا ولا يلتفت. ومع ذلك سمعت دقات قلبه.
*
تركت حقيبتين في بلد آخر؛ كل ليلة أسمعهما تتحاوران: متى يعود؟ وبذلك أدركت أن العودة لا يمكن أن تكون إلا في اتجاهين؛ ربما لأنني ما زلت أبحث عن وطن لا يغريني أي شيء باختزاله في حقيبة أو حقيبتين.
متاهات بورخيس
1
إذا قرأتَ بورخيس وصرت مثله، تؤمن بالعودة الأبدية، وجلست ذات يوم على مقعد في حديقة، وجاءك شخص ليدنو منك، ويجلس بقربك، ويقول لك: "أنا أنتَ" ماذا تفعل؟ هل تصدّقه وتتابع الحوار؟ بورخيس يفعل ذلك.
2
إذا حلمت ذات يوم بأنك تُقتل في الحلم، واستيقظتَ غير مقتول، عليك أن تنتبه أكثر إلى الخطر المحدق بك: فقد تكون استيقظت من حلم سابق يوجد داخل حلم، يوجد بدوره داخل حلم آخر، إلى ما لا نهاية... بحيث تموت قبل أن تستيقظ فعلاً...
3
إذا صرت أنتَ ـ كما أنتَ، الآن، هنا، تمامًا ـ وأدركت أنك لست أنت. وصرت تخاطبك باعتبارك لست أنت: من يكون أنت؟ ومن يكون أنت الآخر؟ حتى الآن، لا خوف عليك، ما دمت "أنتَ وأنتَ" فقط ، ولم تصر ثلاثة. اِحذَر الكثرة، والمرايا، والإنجاب، والرمال... وكل أنواع المتاهات الأخرى...
4
على ذكر الرمال والمتاهات: إذا دعاك ملِكٌ وأضاعك في متاهة مصنوعة من البرنز ليضحك عليك؛ كنْ ملكًا على الصحراء، وادعُه إليها؛ اتركْه هناك، وقل له: "هذه أكبر متاهة خلقها الرب..."
5
إذا زرت متحفًا وأعجبك خنجر قديم؛ انتبه لحياتك، فالخنجر الذي سبق له أن قتل ذات يوم، قد يتحرك فيه، من وراء القرون، دافع ما، ليقتلك أنت...
6
إذا متَّ، لا تخَفْ، ما دمت قد عايشت نصوص بورخيس، وآمنت بالعودة الأبدية: سوف يأتي يوم، وترى أحدهم جالسًا على مقعد في حديقة، فتدنو منه، وتجلس بقربه، وتقول له: "أنا أنت!" وهكذا...
7
إذا رفضت بورخيس ـ لأسباب متعددة تخصك ـ سوف يعود إليك.
***
الإرهاب إطارًا لك
الإرهاب صورة، كلمة سينمائية أيضًا. لكن الإرهاب بوصفه صورة هو إطار لك، عندما يضعك فيه- أو يحاول أن يضعك فيه- خصمك وعدوك.
قبل بضعة عقود كانت صورة الفلسطيني في أجهزة الإعلام الإسرائيلي- والأمريكي- تعادل كلمة "إرهابي". اليوم اختلف الوضع. يقر العالم باستحياء أن الفلسطيني يطالب بحق طرحته مواثيق ومؤتمرات، غير أن تحقيقه في يد إسرائيل وحدها؛ إسرائيل التي تُختزل دائما في صورة ضحية بمباركة خجولة أيضًا من العالم.
والمقصود بالعالم هو الخصم القوي المتأهب دائمًا كي يُعيدك إلى إطار الصورة( كإرهابي) إذا تجاوزتْ حماستُك "حياءه " واستراتيجياته.
الإطار غربي. الصورة شرق أوسطية( عربية تحديدًا) والأهداف تتقدم إلى ما بعد خليج التسعينيات.
الخروج من إطار الصورة يفترض اعتراف الآخر، القويّ، بأن لك حقًّا، أي اعترافه بأسباب العنف ومحاولة معالجتها، بدلاً من استخدامها لتحقيق المزيد من المصالح.
هنا يغدو المطلب أخلاقيًّا. والإمبراطوريات لا تُبنى، ولا تحافظ على وجودها، بالأخلاق.
فهل يستوجب الأمر إعادة الاعتبار إلى كلمة بدأنا ننساها: الإمبريالية ؟
وهل هذا ممكن أصلاً بعد غياب تلك الكلمة وغزو الصورة، وتوابعها، تحت عنوان آخر هو العولمة ؟
هل يكفي أن ندين، وأن نتبرع بدمائنا، ونقف أعوامًا من الصمت، ونسعى إلى إرضاء الوحش الجريح الهائج؟
ماذا نفعل بازدواجيتنا التي يفضحنا بها شارعنا( الجماهيري!) أكثر مما تعبر عنها مواقفنا الرسمية وتحاليلنا السياسية ؟
لسنا وحدنا في هذا...
ففي العالم بأسره، بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية، تتفاقم هذه الازدواجية بين المواقف الرسمية ونبض الشارع، بين الإطار والصورة عندما تتغير المواقع.
يبقى أن الذين يوجدون داخل الصورة، هناك، قد يشكلون بدورهم إطارًا للممارسات اليومية، عندما يغدو الأمر متعلقًا بالإرهاب الذي يمارس ضد العرب والمسلمين المقيمين خارج الإطار/ داخله، أي في القلب المزدوج للديمقراطية الغربية، وفي المؤشر المرتبك لميزان الإرهاب ذي المكيالين...
كثيرون يدخلون التاريخ عبر السُّموم والحرائق، وتظل أسماؤهم لغزًا عبر مسيرة التاريخ: اللعنة! لماذا أحرق نيرون روما؟ لماذا تجرّعتْ كليوباترا السمّ؟
كأسك يا سقراط !
يوميات عراقية
تزايدت المفارقات على أرض العراق: مازال كل يوم يتكشف -من خلال شكاوى المواطن، لا السياسي- عن كون المواطن العراقي ، خسر حريته و"ربح حريةَ غيرِه"!
*
قالت سارة، الفتاة العراقية: كنت لا أستطيع التنفّس بحرية (تقصد إبداء الرأي)، صرتُ لا أستطيع الخروج بحرية (خوفًا من الخطف والاغتصاب).
*
التجار خائفون؛ أسوأ مرحلة في معاملاتهم التجارية هي خطورة الطريق: طريق القوافل غير آمنة رغم أنها تحت حراسة أقوى دولة "حضارية"!
*
قال لي عقاريّ دمشقي صغير: "أمريكا عقاري كبير؛ نحن نشتري بناية قديمة لنهدمها ونعيد بناءها على حسابنا، ونربح. أما هي فتهدم بلدًا لتعيد بناءه من أموال المالك!"
×
"سنعود بالعراق إلى القرون الوسطى". من الذي قال ذلك متناسيًا التعايش الممكن بين كل القرون: طريق القوافل المهدّدة، مع الهاتف الجوّال والإنترنت والفضائيات؟
*
وذلك الجندي الأمريكي الذي اقترب من باحة الجامع ليوزّع المساعدات، فهاجمه المصلّون؛ هل كان يمارس حوار طرشان أم حوار حضارات؟
*
ثم جاء مشهد الاحتفال بعاشوراء على مرأى من الجند المشدوهين: القيامة الآن!
*
ونشر الجند اسم علي بابا العراقي، وفتحوا سجنًا باسمه. تمَّ لهم ذلك بعد أن استولوا على كلمة السرّ: افتحْ يا سمسم!
*
وحاول بعضهم عصيان الأوامر والهروب من العراق متنكّرين في كوفية وعقال ودشداشة، فأُمسك بالكثير منهم على حدود السعودية: ما أبعد الطريق إلى هوليود أمام الرحّالة الجدد!
*
أما الجنود الدانمركيون المنتشرون في جنوب العراق، فقد استلموا من بلادهم التي تجهل التاريخ و...الجغرافيا، آلات لجزّ العشب، وأملاحًا لإذابة الجليد، وكاسحة ثلوج، مع معدّات مماثلة، لإزالة الثلوج التي تندفها شموس العراق! لا بأس: فقد سُئل جحا ذات يوم: "أين يوجد مركز العالم؟" فأجاب: "حيث أقف أنا وحماري"!
*
ظهر نفط العراق... تأمم نفط العراق... "تحرّر" نفط العراق... من التأميم القاتل، إلى الأممية المقتولة، إلى العولمة الفتّاكة: رحلة دائمة مبدؤها السيولة!
*
قيل عن الصحّاف، بعد غيبة وظهور، إنه "شابَ فجأةً " لاعتقاد الناس أن كل حرب "يشيب من هَوْلها الولْدان" كما جاء في المثل العربي، والحال أن الحرب التي شيّبتْه كانت، في بعض وجوهها، حرب أصباغ!
*
كشفت حرب العراق عن شرخ واسع بين السّلطة و"المواطن" والوطن، والدفاع عنه: بصْلة؛ تؤدِّي البداية بقشرتها إلى بلوغ نهايتها: فراغها!
*
النظريات التي أسقطت الدين، سقطتْ.
ومع ذلك فإن فصل الدين عن الدولة قد يفصل الحاكم عن الوحدانية والتشبّه بـ... الإله!
×
لجأ الجنود الأميركيون في العراق إلى إطلاق أسماء شوارع ومدن أمريكية على الشوارع العريقة ذات الأسماء العربية (الرشيد، أبو نواس، شارع أوكلاهوما أو جورج واشنطن) من أجل التعرّف والاستئناس: التسمية امتلاك!
×
الولايات المتحدة تريد زرع الديمقراطية حيث لا توجد، وتسعى إلى حصدها حيث توجد؛ فهل يمكن الحديث عن ديمقراطية صلعاء؟
*
يُغتصب الشعب مرّةً، والمرأة مرّتيْن.
*
لقد لجؤوا إلى تجريف البساتين والنخيل كما في غزة – ومن هناك مأتى الجرّافات- فشاهدنا وسمعنا طفلاً عراقيًّا يصيح: "كلّ نخلة بخمسة جنود" رافعًا أصابعه الخمس... نحونا!
ويا لَلأطفال كم يصيحون ويهدّدون، من غزّة إلى بغداد، مرورًا بمرجعيون!
×
قال دوني جورج، مدير البحوث في مجلس الآثار العراقي: "أغلب المشترين كانوا أمريكيين ويابانيين يملكون المال، وإسرائيليين يعرفون التاريخ": وبذلك يستولون على الجغرافيا!
*
وأخيرًًًا يستطيع المرء كتابة مئة وسبعين ألف قصة قصيرة تقتفي كل واحدة منها طرق التهريب المتعرجة عبر العالم، والتي خضعت لها كل مزهرية بابلية، أو أية قطعة أثرية، أو أي مخطوط من مكتبة بغداد، أو أي خنجر تحرك في الماضي وظل مسكونًا بقابلية الفعل في الحاضر، على طريقة بورخيس. لكن كيف يمكننا كتابة كل تلك القصص والحال أن بورخيس، على ما يبدو، قد مات؟
تنويعات على الزمن
كلّ ما يحدّه الزمن، ينضج، يكتمل، يتخذ شكلاً، ذلك ما يُدعى الاكتمال أيضاً، لكنّه اكتمال المتناهي.
* * *
الطفل يمعن في جغرافية المكان ليصنع الزمن، فيأخذه الزمن كهلاً إلى التاريخ.
* * *
لا وجود للحظة، مادامت اللحظة نفسها قابلة للتجزئة،«الآن» مجموعة لحظات لا نكاد نتحدث عنها حتى يفلت نصفها.
* * *
الزمن هو بطل التراجيديات الكبرى دائماً: له الحركة والفعل والانتصار، وما تبقى … ضحايا.
* * *
ويحدث أن يتمنى اليائس لو قيّض له إعادة عيش حياته من جديد لتلافي الأخطاء، لكن من الذي سيعصمه من أخطاء أخرى، فلا يعود ويتمنى أن يُبعث مرّة أخرى مادامت الأخطاء في حدّ ذاتها هي تعبير عن سوء تأقلم مع … الزمن؟
* * *
كثيراً ما صاح الشعراء بعد الشاعر الفرنسي لا مارتين: «توقف أيها الزمن!» لكن الزمن ظلّ، مثل الحصان الجامح، يتقدم دائماً بصرخات متعاقبة.
* * *
لكن، كيف نحس بالزمن؟ كيف ندركه؟ أهو صوت غصن يتقصّف؟ نسمة تمرّ؟ «لا وجود للزمن في حدّ ذاته، قال الفيلسوف كانط، فهو غير ملازم للأشياء مثل صفة موضوعية، إنه وضع ذاتي مرتبط بحدسنا البشري» أو «هو شكل الشعور الداخلي، أي حدسنا لذاتنا ولحالتنا الداخلية».
* * *
وإذا كان الفيلسوف الإغريقي قد نبّهنا إلى أننا لا نستطيع السباحة في مياه النهر مرتين، لأنها متغيرة، فقد قال باسكال على أثره، الزمن يُشفي الآلام والأحقاد لأن المرء يتغير ولا يظل هو ذاته.
* * *
وعندما قال نابليون، وهو أسير في جزيرة سانت هيلانة: «إن مصير بلد من البلدان قد يتحدّد في يوم واحد»، ردّ عليه فيما بعد غوستاف لوبون قائلاً: «لكن ذلك اليوم الواحد يتطلب الكثير من الأعوام ليكون.»
* * *
والزمن ليس كلّ هذا التجريد الفلسفي، لذلك يقول مارسيل بروست: «الساعة ليست مجرّد ساعة، إنها أصيص مملوء بالروائح والأصوات والمشاريع والمناخات» ويرى أن الأيام يمكن أن تكون متساوية بالنسبة للساعاتي، لكنها ليست كذلك بالنسبة للإنسان. وكان قد توصل إلى أن الزمن الذي نتصرف فيه يومياً، هو زمن مطاطي: يتمدد أو يتقلّص حسب أهوائنا، أما العادة فهي التي تملؤه.
* * *
وعندما قال محمود درويش في جداريّته مؤخراً: «هزمتك الفنون كلها» مخاطباً الموت، فقد أكد ما قاله لويجي بيرانديلو عن الفن الذي يقتص للحياة من... الزمن!
* * *
ويمكن أن نختم مقتنعين بأن كلّ ما قلناه سابقاً هو خارج الزمن، انطلاقاً من قول ليون برنشفيك: «كلّ الأحكام التي يكون موضوعها الزمن، هي أحكام خارج الزمن.»
***
f-b
*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق